
1
قبل رحيله بساعات، كنت معه في جلسة أنس طويلة على مائدة الإفطار بفندق فاليرو تخللتها الذكريات والقصص، وما أمتع أبرسي حين يكون صافياً ورائقاً كعادته دائماً. كنا، إذا ما جاء إلى الدوحة زائراً، لا نفترق، فهو رجل لا تُملُّ صحبته أبداً. يحدثك في السياسة والتجارة والأدب والشعر، الذي يكتبه ويحفظ أجمله، ويطوف بك في عوالم تجاربه الثرة في أروقة الختمية ودهاليز البرلمانات، ويمر بك على مدن السودان، حارة حارة. يعرف الناس والأماكن، ويحفظ لكل مكان وداً خاصاً تواصل حتى آخر يوم في حياته.
في ذلك اليوم، بعد أن أنهينا إفطارنا وأنسنا، أصر على أن يودعني إلى بوابة فندق فاليري بالدوحة على غير عادته. وعندما هممت بالخروج، قلت له: “يا حاج، يوم الجمعة الغداء معانا.” فضحك وقال: “وين يا زول، يوم الجمعة أنا مع الرسول!” فقلت له: “كيف يعني؟” فقال: “يوم الخميس أنا ماشي مكة، ومنها إلى المدينة لأقضي شهر رمضان هناك.”
كانت تلك الكلمات آخر ما سمعت منه، قبل أن يغادر للقاء الرسول بعد ساعات فقط من حديثه. مضى إلى حبيبه رسول الله وهو في أتم صحة وعافية، قضى الليل حتى منتصفه مع أسرته، يداعب أحفاده ويضحك مستمتعاً بآخر ليلة له في الفانية. لم يكن يشكو من شيء، وكرر لزوج بنته الشيخ جميل في تلك الليلة مقولة: ” المرض ما بكتل، بكتل اليوم.” وبالفعل، لم يكن به داء، ولكنه اليوم جاء فمضى سريعاً، ملبياً نداء ربه، وهو الآن، بإذن الله، في سدر مخضود وظل ممدود، مع حبيبه رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
2
كان أول لقاء لي مع علي أبرسي في ثمانينيات القرن الماضي، في ردهات البرلمان، وجدته يدندن بأبيات من ديوان “النور البراق في مدح النبي المصداق” للإمام السيد محمد عثمان الميرغني الختم رضي الله عنه. لا زلت أذكرها، وذكرته بها مرات:
له البشرُ في وجهٍ إذِ الخَلق تلجأُ
يُعاشر أصحاباً بحُسنِ تَلَطُّفِ
يُباشِر أحباباً بحُبِّ تظُرُّفِ
يُخاطِبُ أعداءً بنُطْقِ تألُّفِ
يُحاسِنُ أتْباعاً بِغيرِ تكلُّفِ
بعد السلام، قلت له: “وما لك بمدائحنا؟” فقال: “أنا ختمي دهب عيار 24!” ثم سألني: “وأنت علاقتك شنو؟” فقلت له: “أنا والدي ختمى، ولكني للأسف انسختّ!” فضحك وقال: “بقيت شنو؟” فقلت له: “خليهو البقيتو، وأبقت عليّ. ووالدي متزوج من السيدة نايلة بنت السيد جعفر الميرغني…” ومنذ تلك اللحظة، ارتقيت مكانة عليا عنده، وأصبح يناديني: “أخو السادة.” كان يعرف إخوتي جميعهم، وتجمعه صداقة خاصة مع أخي الأصغر، عبد الله المحجوب.
3
كان علي أبرسي محباً للرسول، صلوات الله وسلامه عليه، ومات وهو في الطريق إليه. وحين تأملت أبيات السيد محمد عثمان، وخلال معرفتي الطويلة به، وجدته يتمثل تلك الأبيات، فقد كان رحمه الله لطيفاً، بشوشاً، يؤلف غير متكلف، تحبه لصدقه وجرأته وشجاعته في قول الحق. كان واسع الاطلاع، مثقفاً حقيقياً، وكيف لا وهو خريج المعهد العلمي، وما أقل ما تجتمع هذه الصفات في رجل أعمال!
4
يحكي علي أبرسي فيقول: “نحن بطون آل كمبال، وآل حميدان، وآل كرار، وآل حسين، ناس قرآن وتجارة.” ولكن في سيرته، تجد أن الرجل قد شق طريقه وحده، وأسس نفسه بعرق جبينه وجهده.. ترك أبرسي سكة التعليم منذ أن غادر المعهد العلمي. كان أبوه يتمنى أن يكون عالماً يتخرج في الأزهر الشريف، لكنه اختار أن يكون رجل أعمال وعالماً في الاقتصاد العملي الناجح.
سلك علي أبرسي في الحياة العملية طريق أهل الكوارتة في التجارة. كانت محطته الأولى الدويم، ويحكي عنها: “الدويم كانت منتعشة جداً، سوق عامر، والبنطون حكاية بالشرق والغرب، وكانت مدينة جميلة ونظيفة، وكان الخليفة حسن تاج السر، والد سر الختم الخليفة، هو سيد الوقت هناك. وبحكم الختمية والتجارة، سمح لي، ومعي زوجة أخي، أن أركب سيارته الأمريكية (الناش)، من أجمل العربات في السودان. لم يمتلكها سوى اثنين: محمد حسين، والخليفة الحسن. سافرت بها من الدويم حتى الخرطوم، ولم تكن حتى في القصر!”
5
من يسمع اسم علي ابرسي، وهو من أسرة الكوارتة الشهيرة ذات الحسب والنسب وصالح الأعمال، والتي رفعت اسمها وذكرها في كافة بقاع السودان، يظن أنه ورث المجد والثروة. ولكن الحقيقة أن أبرسي شيد إمبراطوريته المالية بشقاء الليالي والجهد المضني، وتوهج على نار الشقاء والتجارب الصعبة، سنقرأ ذلك في صفحات حياته، كما أن مآثره التي لا تعد ولا تحصى ستبقى نبراساً لأجيال عديدة. تموت الرجال، ولكن تبقى المآثر.