
البحر الأحمر: شريان استراتيجي في مرمى التنافس الدولي (1)
على ضفاف هذا المسطح البحري الضيق نسبيًا، يدور صراع خفي حينًا، ومكشوف حينًا آخر، لكنه بالغ التأثير في تشكيل موازين القوى الإقليمية والدولية.
لم يعد البحر الأحمر مجرد ممر مائي يربط الشرق بالغرب، بل تحوّل إلى مساحة جيوسياسية شديدة الحساسية، تتقاطع فيها مصالح القوى الكبرى، وتتشابك عنده خطوط السياسة، والاقتصاد، والتجارة، والطاقة، والأمن، والسيادة، والنفوذ.
في هذه السلسلة من المقالات، نفتح نافذة لفهم التحولات العميقة في أمن البحر الأحمر، وكيف انتقل من كونه ممرًا تجاريًا إلى ميدان صراع مفتوح، تمهيدًا لتحليل أثر النزاعات القديمة والمستمرة، وعلى رأسها الحرب الدائرة في السودان، في إعادة تشكيل معادلات الاستقرار والسيطرة في هذا الإقليم الاستراتيجي.
المقدمة
في خريطة الصراعات الدولية المعاصرة، بات البحر الأحمر ميدان للصراع و التنافس المفتوح، تتقاطع فيه المصالح، وتتصادم عنده الإرادات. لقد خرج هذا المسطح من كونه ساحة عبور تجاري إلى مساحة أمنية مشحونة بالتنافس العسكري والسياسي والاقتصادي، يزداد توترها كلما ضعفت سلطة الدول المطلة عليه، أو انزلقت إلى الفوضى، كما هو الحال في السودان واليمن والصومال.
رغم أن الحرب السودانية الحالية تبدو جغرافيًا بعيدة عن سواحل البحر الأحمر، فإن انعكاساتها العميقة على أمن البحر، وعلى معادلات النفوذ فيه، تؤكد أن أمن السواحل لا يُقاس بالامتار، بل بالقرار والسيادة والاستقرار.
الأهمية الجيوسياسية للبحر الأحمر
يُعد البحر الأحمر من أهم الممرات المائية على مستوى العالم، بطول يقارب 2,250 كيلومترًا، يربط بين قارات إفريقيا وآسيا وأوروبا، عبر باب المندب جنوبًا وقناة السويس شمالًا، ليمثل بذلك أحد أعمدة التجارة العالمية، إذ تمرّ عبره قرابة 12% من التجارة البحرية الدولية، وكمية هائلة من صادرات النفط والغاز نحو أوروبا وآسيا.
يحده البحر الأحمر من الشرق (السعودية واليمن) ، ومن الغرب (مصر والسودان وإرتيريا) ، ومن الجنوب يتصل بخليج عدن ثم المحيط الهندي. وتمثل هذه الجغرافيا المعقدة موقعًا محوريًا للسيطرة والتحكم في التدفقات الاقتصادية والأمنية حول العالم.
يُعد البحر بوابةً طبيعية تربط بين قارات آسيا وإفريقيا وأوروبا، وتمثل قناة السويس في شماله نقطة ربط حيوية مع البحر المتوسط، بينما يشكل باب المندب جنوبًا عنق الزجاجة الذي يربط البحر بالمحيط الهندي عبر خليج عدن.
يطل على البحر الأحمر 13 دولة، من بينها خمس دول تعاني هشاشة أمنية أو صراعات مسلحة مزمنة (السودان، اليمن، الصومال، إريتريا، وجيبوتي)، مما يزيد من قابلية البحر للتحول إلى مساحة غير مستقرة ومعرضة للاختراق والتدويل.
البحر الأحمر المسرح العسكري المفتوح
شهد البحر الأحمر خلال العقود الأخيرة تحولًا تدريجيًا إلى منطقة عسكرة عالية الكثافة، حيث نشطت فيه القوى الدولية والإقليمية بنشر قواعدها العسكرية وتوسيع نفوذها البحري.
في جيبوتي وحدها، نجد قواعد لكل من( الولايات المتحدة، فرنسا، الصين، إيطاليا، واليابان) . كما توجد قواعد أو نقاط انتشار عسكري في ارتريا، تُستخدم موانئ مثل مصوع وعصب كنقاط ارتكاز عسكرية مؤقتة أو استخبارية لقوى مثل الإمارات وإسرائيل وإيران في مراحل مختلفة. وفي السودان، كانت لتركيا والإمارات و روسيا محاولات لم تكتمل لمشاريع ذات طابع عسكري او تجاري على سواكن وبورتسودان و ابوعمامة شمال بورتسودان.
ويُعد باب المندب و هو المنطقة الاضيق و الاخطر بالبحر الاحمر، واحدًا من أكثر النقاط حساسية في الأمن البحري العالمي، حيث تمر منه السفن المتجهة إلى قناة السويس. ولذا، فإن السيطرة عليه أو تعطيله كما حدث في الصراع اليمني يحمل تأثيرًا عالميًا مباشرًا بما يشكله من تهديدات مباشرة على الملاحة الدولية
لقد تحولت بذلك المياه الإقليمية والدولية في البحر الأحمر إلى فضاء استخباري وقتالي مرن، تسعى كل قوة كبرى إلى تثبيت موطئ قدم دائم فيه.
التهديدات المركّبة لأمن البحر الأحمر
لا يقتصر التهديد لأمن البحر الأحمر على القرصنة أو الإرهاب البحري فقط، بل تصاعدت التهديدات و تنوعت التحديات بين تقليدية وغير تقليدية، ما يجعل البحر الأحمر مسرحًا لحروب متعددة الطبقات، تشمل:
1) التهريب و يشمل تهريب (السلاح والبشر والمخدرات)، و الجرائم العابرة للحدود عبر شواطئ غير خاضعة للرقابة.
2) سباق السيطرة على الموانئ والجزر، من خلال استثمارات موجهة ظاهرها تجاري وباطنها أمني، حيث تستثمر بعض الدول في شراء أو تشغيل موانئ إستراتيجية بهدف النفوذ أكثر من التجارة.
3) تهديد الكابلات البحرية (مثل الكابل Sea_Me_We 5 وAden-Djibouti Cable) والتي تمر عبر قاع البحر الأحمر وتشكل عصبًا رقميًا عالميًا لنقل البيانات بين القارات و تعد هدفا استخباراتيا بالغ الاهمية.
4) التجسس البحري والاستخدام العسكري للجزر النائية والمياه الدولية في مراقبة النشاط العسكري والسياسي للدول الأخرى.
5) الإرهاب البحري وعمليات التخريب التي تستهدف السفن والمنشآت الحيوية.
6) القرصنة في القرن الإفريقي، رغم تراجعها، إلا أنها لا تزال قابلة للعودة في ظل هشاشة الدولة في الصومال.
كل ذلك يضع البحر الأحمر في مرتبة عالية على قائمة أولويات الأمن العالمي، ويجعل من التوازن فيه أمرًا بالغ الصعوبة.
خارطة و ملامح التنافس الدولي والإقليمي
يتنافس على البحر الأحمر عدد من الفاعلين و القوى الإقليمية والدولية و تتقاطع مصالحهم، كما تتباين أهدافهم بين الهيمنة العسكرية، والتوسع الاقتصادي، والاستحواذ على الممرات اللوجستية، نذكر منها:
1) الإمارات و التي تسعى إلى بناء نفوذ و شبكة اقتصادية عبر امتلاك او استحواذ او ادارة و تشغيل موانئ، ونفوذ امني عسكري يمتد من عدن إلى مصوع، ومن سواكن إلى القرن الإفريقي.
2) تركيا حاولت الدخول بقوة عند زيارة الرئيس أردوغان للسودان في اواخر العام 2017، و توقيع عدد من الاتفاقيات الاقتصادية و الدفاعية.لكن تركيا نجحت مؤخرا في التواجد العسكري و الاقتصادي في الصومال ليس بعيدا عن التنافس في المنطقة.
3) مصر تعتبر البحر الأحمر شريانًا وجوديًا، وتحميه استراتيجيًا بالتنسيق مع السعودية بما يحمي مصالحها و امنها القومي. فمصر ترى في البحر الأحمر عمقًا استراتيجيًا لقناة السويس، ولا تقبل بأي نفوذ أجنبي قد يُهدد هذا المسطح المائي الحيوي.
4) إسرائيل عززت وجودها الأمني والاستخباراتي في أرخبيل “دهلك” الإرتيري، وتراقب النفوذ و النشاط الإيراني و الحوثي اليمني عن كثب و بقلق.
5) إيران تمارس نفوذًا بحريًا عبر الحوثيين و تستخدمهم كأداة ضغط و رقابة بحرية، وتهدد بشكل مباشر حرية الملاحة في باب المندب، وتختبر صبر القوى. كما تحاول من جهة اخرى كسب حلفاء جدد في البحر الأحمر على راسهم السودان في الساحل الغربي تجاه افريقيا .
6) الصين والولايات المتحدة تخوضان سباقًا صامتًا للسيطرة الناعمة على الموانئ وشبكات الخدمات اللوجستية في القرن الإفريقي.
7) السعودية تعزز حضورها عبر السيطرة على تيران وصنافير، وتحاول إعادة تشكيل البيئة الأمنية للبحر من خلال “مجلس الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن”.
8) روسيا تحاول منذ عام 2018 الحصول على نقطة دعم لوجستي في الساحل السوداني، وقطعت شوطًا بعيدًا في التفاهم مع الخرطوم. لكن الضغوط الغربية والإقليمية، وتقلبات المحاور، أوقفت المشروع في مراحله المتقدمة. تطمح روسيا إلى تحويل تلك النقطة إلى قاعدة عسكرية دائمة مشابهة لقاعدة طرطوس السورية، لتكون منصة انطلاق نحو إفريقيا والشرق الأوسط والبحر العربي.
9) الولايات المتحدة والصين تخوضان سباقًا صامتًا للهيمنة الاقتصادية والأمنية، من خلال النفوذ في الموانئ، والتمويل، والتواجد العسكري الرمزي، وخاصة في جيبوتي والساحل الصومالي.
كل هذا التداخل يُحول البحر الأحمر إلى بؤرة توتر كامنة، قابلة للاشتعال بأي لحظة حسب التحولات في الداخل الإقليمي أو القرارات على مستوى القوى الكبرى.
السودان لاعب محوري في التنافس و الصراع
يحتل السودان موقعا جيوسياسيا مهما للغاية، حيث يمتلك شريط ساحلي على البحر الأحمر يصل إلى حوالي من 750 كلم ، ويملك عدة موانئ استراتيجية، على رأسها بورتسودان وسواكن و مينائي بشائر للنفط، بالإضافة إلى منطقة أبو عمامة التي طرحتها الحكومة السودانية كموقع لبناء ميناء جديد في 2022، مع وجود عدد مقدر من المواقع التي تصلح للاستثمار التجاري و العمل المينائي.
ورغم أن الحرب الحالية في السودان جغرافيًا لا تلامس الساحل بشكل مباشر، إلا أن هشاشة الدولة المركزية و التي تبدو (فاقدة للمناعة)، وانقسام القرار السياسي والعسكري يجعلان البحر الأحمر ساحة مفتوحة لأي اختراق خارجي. فمن دون استقرار في السودان، لا يمكن ضمان أمن البحر الأحمر. ومن دون استثمار واعٍ في سواحله وموانئه، سيظل السودان هدفًا لا لاعبًا في صراع البحر. كما يمكن القول بأن الداخلية التي اندلعت في أبريل 2023 عطّلت قدرة السودان على إدارة هذا المورد الاستراتيجي، وفتحت الباب لتسابق خارجي على النفوذ في مناطقه الساحلية.
أمن البحر الأحمر لم يعد شأنًا بحريًا تقنيًا يهم فقط الدول المطلة عليه، بل أصبح جزءًا من المعادلات الدولية الكبرى في الاقتصاد والسياسة والتنافس العسكري. كما ان فهم خريطة النفوذ في هذا البحر، وتحولاته المستمرة، هو المفتاح لفهم كثير من أحداث المنطقة، من اليمن إلى السودان، ومن جيبوتي إلى مصر.
وإذا أراد السودان أن يكون لاعبًا حقيقيًا في هذا البحر، فعليه أن يملك الرؤية والإرادة والسيادة على قراره، وأن لا يسمح بأن تكون موانئه وبوّاباته البحرية منصات يستخدمها الآخرون لمصالحهم على حساب أمنه القومي. وقد سبق أن حاولت قوى إقليمية ودولية الدخول عبر الموانئ أو المشروعات الاقتصادية ذات الطابع المزدوج، وكان غياب الرؤية الوطنية هو القاسم المشترك في تعثر تلك المشاريع أو توظيفها لصالح أطراف خارجية. في ظل هذا الواقع، يبدو السودان لاعبًا محتملًا ولكنه غائب فعليًا عن ميدان الصراع في البحر الأحمر، ما لم يسترد عافيته السيادية والسياسية.
الخاتمة
لم يعد البحر الأحمر مجرد “طريق بحري”، بل تحوّل إلى ميدان استراتيجي متشابك، تتقاطع فيه خطوط التجارة والمخابرات والقوة الصلبة والناعمة. ولأن البحر لا يحرس نفسه، فإن أمنه لا يمكن أن يُترك بيد المصادفات أو التوازنات الخارجية فقط، كذلك فان الدول المطلة عليه، ومنها السودان، لا بد أن تمتلك مشروعًا واضحًا لحماية مصالحها السيادية، واستثمار موقعها بدلًا من تحويله إلى بوابة لاجتياح الآخرين.
إن إعادة تموضع السودان في معادلة البحر الأحمر، ليس ترفًا جيوسياسيًا، بل ضرورة وجودية تضمن له السيادة، وتحول دون تحوّله إلى ممر مُستباح في لعبة الكبار.
نواصل…
- عقيد بحري ركن متقاعد
•دكتوراه في الدراسات الاستراتيجية (أمن البحر الأحمر)