هنئنا السفير الأمريكي الجديد بالخرطوم جون غودفري عبر صوت أمريكا، ونسأل الله التوفيق للسفير محمد عبد الله إدريس في واشنطون، ولكنني ضد أن نتوقع أن تقوم الدبلوماسية الرسمية المباشرة بكل العمل في تحسين العلاقات الأمريكية-السودانية، ثم نلوم الرجلين إذا حدث تراجع أوإبطاء. لذلك رسالتي للإعلاميين والسياسيين والناشطين، حسنوا النوايا تجاه وطنكم وتجاه هذه العلاقات، ودعوهما يعملان وساعدوهما بالأعمال أكثر من الأقوال وامنحوهما فترة كافية قبل الحكم على تجربتهما. حتى ذلك التوقيت دعونا نناقش الشأن الأمريكي من زاوية معرفية أكثر عمقا.
1- من الرئيس بايدن إلى أقل سياسي يقولون هذه الأيام أن التناحر الحزبي هو مشكلة أمريكا الأخطر، لكنني أعتقد أن المشكلة الحقيقية في أمريكا ليست في الصراع بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري، إنما في الصراع داخل الحزبين، بل داخل العقل الأمريكي بين القيم الأمريكية ذاتها، تحديدا بين “قيمة الحرية” و كل القيم الأخرى، ومثال ذلك الصراع بين “الحرية” و “الحياة” داخل الحزبين وليس بينهما. الديموقراطيون يحملون الجمهوريين مسئولية القتل الجماعي في المدارس وفي الأماكن العامة ويعتبرونهم داعمين للتساهل مع السلاح، وبالمقابل، الجمهوريون يرون الديموقراطيين أنصار الإجهاض الذي يقتل قرابة 600 ألف، عدد كبير من الأجنة بعد تكوين القلب وخفقانه بالحياة، وكلا الطرفين يبرر موقفه بالحرية أوالإختيار على تكلفة الحياة. الأول يرى حرية حيازة السلاح حقا كفله الدستور الأمريكي وتعديله لا يكون إلا بالمسار الديموقراطي الشعبي وليس السياسي، والثاني يرى المرأة – وليس المجتمع أو الدين – هي من تختار التخلص من الكائن الحي في رحمها ولو كان قلبه ينبض بالحياة. وعلى ذلك قس، قيم أخرى تتصارع وتؤسس لواقع منقسم مرير، والحل ليس في التصالح بين الحزبين بل بالتصالح داخل كل حزب وإنهاء الخصومة بين “الحرية” و “الحياة”.
2- ممثل دولة عربية “صديقة لأمريكا” قال لي ذات يوم في “نادي الصحافة الوطني” أمريكا تتعامل مع بلادنا إيجابيا ولكنها تتآمر علينا وتتلاعب بالمشهد السياسي وتدعم المعارضة علنا، قلت له يجب أن تمنحوا حكومتكم نجمة الإنجاز. أصلا أمريكا مع كل دول العالم لديها حالتان لا ثالث لهما (عدو صريح أو صديق سيء)، حكومتنا يوما ما اختارت الحالة الأولى في لحظة غضب ثم بقيت تبحث عن الثانية عشرين سنة. هذا هو الواقع، وليس سلوكا أمريكيا إنما سلوك كل الأمبراطوريات عبر التاريخ.
3- في واشنطون، على جانبي جادة ماساتشوستس وما يتفرع منها هنالك ما يعرف بــصف مراكز البحث والتفكير Think Tanks Row، أما شارع كي ستريت K –street مشهور بشركات اللوبيينغ والكثير من الفساد السياسي. كلا الشارعين لا غنى عنهما البتة في السياسة الخارجية لأي دولة تتعامل مع أمريكا، على الأقل أن تفهم ما يدور عنها في هاتين المنطقتين. المنطقة الأولى راقية المستوى وهي الفم الذي تتناول به أمريكا زبدة الأفكار وخلاصة العقول، ومنها يذهب الطعام إلى (المجتمع السياسي والمالي الأمريكي) للهضم، أما كي-ستريت فهو المكان الذي يخرج منه المنتج النهائي.
4- أسلوب الفقهاء الذي درسناه في المساجد في إثبات الآراء بحشد الحجج (هذا الأمر صحيح من عشرة وجوه) أو (هذا الحكم باطل وفق عشرين دليلا) لا يفيد أمام العقلية الأمريكية البتة، لأنها مبرمجة على منطق “لو كان دليلك الأول كافيا لما احتجت إلى عشرة” إذن المطلوب لإقناع العقل الأمريكي ليس تعدد الأدلة والحجج، إنما وجود حجة “واحدة فقط” قوية وقاطعة ولتكن مهاراتك بعد ذلك في التفنن في عرضها وتأكيدها. هذه الحجة أو الدليل الواحد لو كان لإقناع الجمهور يجب أن يكون مرضيا للأغلبية، لا تكترث للأقلية ولا تقدم دليلا ثانيا وثالثا لأنك ستخسر الأغلبية بسبب تعدد الأدلة، إكسب السباق واخسر عقلك بقسوة. أما في حالات التفاوض غير الجماهيري سيكون الأمر Case by case.
5- البداية بالتكلفة المالية وليس الأفكار مع الأفراد في أمريكا أفضل، ولا يعني هذا الإنتقاص من الأفكار، لا تزال مهمة جدا وتفحص بعناية فائقة، لكن الأفضل أن تتقدم للشخص وتقول له أنا فلان ولدي موضوع فيه مبلغ ثلاثة ألف دولار ويمكنني شرحه في خمس دقائق، وهو عمل مشروع وقانوني بامتياز. حتى لو كان هذا الشخص (مليونير) ولا يحتاج لمبلغك التافه هذا، سيجلس معك أو سيقول لك ابعث لي إيميل، وسيقرأه حتما، ليس طمعا في هذا المبلغ ولكن لمعرفة كيف يمكن صنعه، وهل يمكن شراء الفكرة نفسها وتطويرها.
6- ليس في أمريكا وحدها إنما في كل المجتمعات ذات النزعة الفردية، الكذب سلوك مرفوض. إذا حاول زميلك أو حتى قريبك التودد إليك وزيارتك وأنت لا ترغب في ذلك ليس بالضرورة أن تعتذر “كان بودي لكن أنا طالع مشوار” ستقول له “لا أرغب” أو “سأرى” ولست ملزما أصلا بأي رد أو توضيح له، بل يمكنك التجاهل من الأساس، الفردية قادت لهذا التغيير وألغت الاحتياج للكذب الإجتماعي. من جهة أخرى قاد إقتصاد السوق للتنافس التجاري فالشركة إذا كذبت ستخسر وسيفضحها المستهلك أو الشركة المنافسة. حاليا، الحياة باتت معقدة ودوامة العمل مزعجة ولا مساحة في العقل أصلا للتفكير في كذبة، لو استغرقت في أي تفكير سيفوتك المخرج في “الهاي واي” وتخسر نصف ساعة على الأقل لإستعادة المسار. مع هذه التطورات قل الإحتياج للكذب وزادت أضراره وانحصر في هامش ضيق جدا. لم يكن هذا بسبب نشر الفضيلة والدعوة للصدق بل هو نتيجة عملية وتراكمية للفردية ونمط الحياة والتحرير الإقتصادي والتنافس الحامي. الخلاصة، في أمريكا لا تكذب، يمكنك الاحتفاظ بالمعلومة، أو تقول (جزء) غير ضار ومناسب منها، أو تعتذر عن الحديث تماما، لكن لا تكذب.
7- يخطيء من يظن أن المحافظين دينيا في أمريكا المتصالحين مع المثليين والمتحولين أنهم متصالحين مع الممارسة، هم متصالحون مع وجود الأشخاص وليس الأفعال. هذا التصالح سببه نزعة “الفردية” أيضا، لأن أي شخص مصمم على الإهتمام بنفسه فقط، وهو يحكم علي من يقف أمامه – مستقيم أو من المثليين لا فرق – من خلال تأثيره المباشر عليه وليس على المجتمع أو الدنيا. مدخل أمريكا في احترام الآخر ليس إحتراما حقيقيا، إنما هو الإهتمام بالذات والتركيز عليها بما لا يدع وقتا للأهتمام بالآخر إلا في حدود إحترام القيم العامة والقانون، هو تفكير عملي وإذعان للقانون أكثر من كونه إيمان أخلاقي راسخ، لذلك في أيام الإضطرابات المدنية وغياب القانون يظهر السلوك العدواني الهمجي بوضوح. المزعج جدا، أن هذا يعني احتمال ظهور الإرهاب إذا تطاولت فترة غياب القانون، وهنا تحديدا الحديث عن قطع تمويل الشرطة الذي تبناه بعض الديموقراطيين هو وصفة إنتحار لأمريكا.
8- ترمب لم يصنع أمريكا غير موجودة هو فقط أزاح الستار الذي يغطي الكواليس الخلفية للمسرح، ولذلك لم تعد ترى الممثل الذي ينتقل من دور الراهب إلى مجرم في الأداء المسرحي فقط، أنت تراه وهو يغير ملابسه قطعة قطعة ويتهيأ للتمثيل. ذهب ترمب ولا تزال الكواليس مكشوفة للجمهور الأمريكي. ولذلك، بايدن ومن يأتي بعده وأي سياسي أمريكي إذا كان لا يستطيع تغيير ملابسه أمام الجمهور في المسرح السياسي مثل ترمب لن ينجح. ببساطة لا يوجد ستار ولا يوجد من يجرؤ على إعادته مجددا، أخلاق ترمب باتت هي معيار النجاح السياسي.
9- رقم الإنتحار في أمريكا قرابة 45 ألف حالة في السنة، بمعنى أنه يوجد يوميا معدل أكثر من 120 شخصا يقتل نفسه يوميا، نعم هنالك خمسة ارواح منتحرين تخرج كل ساعة في أمريكا، خمس جثث في الساعة، والمصدر المؤسسة الأمريكية لمنع الإنتحار afsp.org راجعوا الموقع، وهو أصلا يعتمد على الوكالة الرسمية للسيطرة على الأمراض CDC.GOV. أنا نفسي أخذت زمنا أراجع بفزع المواقع وأنا متشكك في الأرقام، لاحقا أدركت أن هذا هو الواقع الذي لا يمكن تكذيبه. النقطة الجديدة التي أضيفها هنا أن البؤس والتعاسة قد تصيبان شخصا فيكون هو المهدد بالإنتحار ولكن الذي ينتحر شخص آخر في دائرة تأثيره، لماذا؟ الإجابة هي أنه كما يوجد تدخين سلبي يوجد (إنتحار سلبي)، وهو ما يفسر إنتحار شريك الحياة أو الإبن أو البنت متأثرا بالتدهور في حالة شخص في الأسرة إقتصاديا وصحيا وإجتماعيا، وبدلا من أن ينتحر الشخص صاحب الحالة تنفجر طاقته السلبية في من حوله، فينجو هو وينتحر الأقل إحتمالا لهذه الطاقة. في أمريكا، أي شخص طبيعي وقادر على سداد الأقساط والديون فهو شخصية سعيدة، غير ذلك ستتفاقم مشاكله الإجتماعية أوالصحية حيث لا يوجد تأمين صحي مجاني مثل بعض الدول الأوربية، وإذا أصابته (التعاسة القصوى) هو أو شخص ما حوله سيسكنه شبح الإنتحار، أو على الأقل سيفكر فيه يوميا، هذا ما يفسر لك إنتحار الشباب الصغار الذين لم يرون من الحياة شيئا سيئا بعد.
10- الفصل الحقيقي والمذهل في أمريكا ليس فصل الدين عن الدولة، هذا موجود حتى في بعض الدول الفاشلة والمنهارة. ما يعجبني جدا واستمتع بتحليله يوميا هو القدرة الأمريكية المذهلة في الفصل بين (الإستراتيجي) و (المرحلي أو التكتيكي)، مع الجمع بينهما بإتقان ودهاء وسلاسة في السياسة الخارجية. ولتقريب الفهم خذوا مثال طريقة تفكير العاشقة اللعوب التي تخطط للزواج من رجل، فتمتعه جيدا وربما تثير غيرته بإمتاع أصدقائه الخمسة حتى تحفز رغبته في أحتكارها. هو من بين الشلة سيكون (الهدف الإستراتيجي) لكنها تظل تتعامل معه مرحليا مثل الآخرين لإدارة المنافسة، وتحتفظ له بحركة “لي الساق” التي يجن جنونه لها وهو لا يعلم أنها (حركة إستراتيجية). الأمر أكثر تعقيدا، لأنها ترغب في النهاية بالإحتفاظ به زوجا وبصديقه المقرب جدا عشيقا وتحتوي المنافسة الحامية بينهما، ولذلك تخصص حركة إستراتيجية أخرى للعشيق. وتعيش حياتها وهي تتقن الفصل بين المرحلي والإستراتيجي في الأداء والممارسة، هذه العاشقة هي “سياسة الإحتواء المزدوج والمتعدد الأمريكية”.