عجز العالم عن معاقبة التمرد: لا عقوبات .. ولا حماية توازي فداحة الانتهاكات!؟

مقدمة: الفاشر.. مدينة تتحدث بلغة الدم والعجز الدولي!
في قلب دارفور، ترقد مدينة الفاشر مثخنة بالجراح، محاصرة بين الموت والجوع، والعالم يشاهد بصمت مريب. منذ ما يقارب العامين، تتوالى صور المدنيين الفارين من أحيائهم المحروقة، والمرضى الذين يموتون عطشًا أو قنصًا أو بسبب غياب الدواء، فيما تكتفي المنابر الدولية بالتعبير عن “القلق العميق” والتنديد الشكلي.
إن الفاشر اليوم ليست مجرد مدينة سودانية منكوبة؛ إنها مرآة تعكس فشل النظام الدولي في حماية المدنيين، وتفضح العجز القيمي الأخلاقي والسياسي للدول الكبرى التي تتشدق بحقوق الإنسان وحماية المدنيين، ثم تلوذ بالصمت حين يُذبح الإنسان خارج حساباتها الجيوسياسية بانتقائية مقيتة.
في هذه المأساة، يتبدّى عجز الإرادة الدولية في أوضح صوره: لا عقوبات تُفرض، ولا تصنيف إرهابي يُعلن، ولا ادانة للجاني رغم أن الجرائم الموثقة تجاوزت كل حدٍّ في البشاعة الإنسانية، وتخطت الخطوط الحمراء التي رسمتها الأمم المتحدة ذاتها للوضع الإنساني.
ومع ذلك، يواصل العالم إدارة الأزمة بالمراقبة من بعيد والانتظار، كما لو أن الضحايا أرقام في تقارير، أو صور عابرة على شاشات الأخبار.هذا هو قدر السودان ومدنه وأريافه، والفاشر محطة في الصمود والبسالة وكتابة التاريخ.
انتهاكات موثقة… وشهادات دامغة
لم يعد الحديث عن جرائم مليشيا التمرد في الفاشر “ادعاءات” سياسية، بل صار ملفًا موثقًا بالأسماء والتواريخ والصور وتسلسل الاحداث واعترافات الجاني نفسه ..ففي الأسابيع الأخيرة، أصدرت صحيفة الغارديان البريطانية تقريرًا استقصائيًا مفصلًا عن المذابح التي ارتكبتها المليشيا بحق المدنيين، مشيرة إلى أن “الفاشر أصبحت ساحة لتطهير عرقي منظم يستهدف المكونات السكانية على أساس الهوية”.
وفي السياق نفسه، كشفت جامعة ييل الأميركية عبر مشروعها لمراقبة النزاعات عن صور أقمار صناعية تؤكد تدمير مئات القرى حول المدينة، واحتراق الأسواق والمراكز الصحية، وتوسع المقابر الجماعية في محيطها والجثث وتغير التربة كشواهد على بشاعة الكارثة.
أما الواشنطن بوست فقد نشرت تحقيقًا ميدانيًا يوثق استخدام المليشيا لأسلحة ثقيلة في المناطق السكنية، وقيامها بعمليات قتل واغتصاب ونهب ممنهج، في خرق صريح لاتفاقيات جنيف التي تحظر استهداف المدنيين في النزاعات المسلحة.
تؤكد هذه التقارير وتعززها أيضًا ما أعلنته منظمة الصحة العالمية وأطباء بلا حدود من أرقام مفزعة حول انهيار المنظومة الصحية وارتفاع معدلات الوفاة بين النساء والأطفال.
بل إن القائد الثاني للمليشيا نفسه والناطق الرسمي باسمها اعترفا علنًا بوقوع تجاوزات وانتهاكات، في تصريح هو بمثابة شهادة داخلية دامغة تُسقط أي مبرر لصمت المجتمع الدولي.
حين يتساوى الهجر بالصمت مع التواطؤ
ورغم هذا التراكم غير المسبوق من الأدلة، فإن الاستجابة الدولية ما زالت في حدود “الإدانة اللفظية”، لا الفعل في وقف المجاذر ولا عقوبة ومعبر ادري مشرعا لتمكين التمرد من الأبيض.
لم يصدر أي تصنيف إرهابي رسمي بحق المليشيا، ولم تُفرض عقوبات فردية أو جماعية على قادتها، كما لم يُفعَّل أي مسار قانوني جاد أمام المحكمة الجنائية الدولية.
إنه صمت لا يمكن تفسيره إلا بوصفه عجزًا سياسيًا متعمدًا، أو تواطؤًا غير معلن تديره المصالح الإقليمية والدولية وتآمر من خارج الحدود بدعم متنامي لمزيد من الضحايا.
فالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ومجلس الأمن يعرفون تمامًا ما يجري في دارفور، لكنهم يكتفون بتصريحات باهتة تتحدث عن “ضرورة ضبط النفس” و“الحوار الشامل”، وبيان صحفي لا معنى له وليس له حجية ولا يؤسس لقرار ولا يقبل عثرة الضحايا وآلامهم ومعاناتهم، وكأن جرائم الإبادة يمكن أن تُحلّ بالوساطات. إن هذا التناقض بين حجم الكارثة ورد الفعل الدولي يُسقط آخر ما تبقى من الثقة في المنظومة العالمية لحقوق الإنسان او دعوات الهدنة التي تطلب لمنح التمرد فرصة للهروب والتقاط انفاسه وتموضعه.
الأسباب الكامنة وراء العجز الدولي
1. تشابك المصالح الإقليمية والدولية:
القوى الكبرى تنظر إلى السودان لا كأزمة إنسانية ملحة، بل كساحة تنافس على الموانئ والمعادن والأراضي والنفوذ في البحر الأحمر.
بعض الدول – ومنها أطراف مؤثرة في التحالفات الغربية – ترى في المليشيا أداة ضغط تخدم أجنداتها في مواجهة محاور أخرى، مما يجعلها تتردد في تبني تصنيفها او عقوبات قد تمسّ حلفاءها الإقليميين بالخليج.
2. ضعف الإرادة داخل المؤسسات الأممية:
مجلس الأمن مشلول بفعل توازنات الفيتو والمصالح المتعارضة والضحية بلد وشعب.
بينما تقف مفوضية حقوق الإنسان والجنائية عاجزة عن فرض تحقيق مستقل بسبب التسييس وغياب التوافق الدولي حول طبيعة النزاع.
3. ازدواجية المعايير:
ما يُعدّ “إرهابًا” في منطقة معينة يصبح “صراعًا داخليًا” في أخرى، وفق هوية الضحايا وموقعهم الجغرافي.هذه الازدواجية جعلت من القانون الدولي أداة انتقائية، تُستخدم حين تخدم المصالح، وتُهمَل عند الجغرافيا وحين تمسّها، وما يجري في بلادنا نموذجا لهذا التجاهل المتعمد للواقع.
الفجوة بين النصوص والواقع
تنص المادة (3) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن “لكل فرد الحق في الحياة والحرية والأمان على شخصه”.لكن ماذا تعني هذه المادة في الفاشر؟ في مدينة محاصرة، يموت فيها الأطفال جوعًا، والنساء اغتصابًا، والرجال رميًا بالرصاص، لا يبقى للحق في الحياة سوى مكانه في الوثائقيات دون ضمير دولي.
كما تفرض اتفاقيات جنيف الأربع على طراف الحرب وحماية المدنيين وتوفير ممرات آمنة للمساعدات الإنسانية، غير أن مليشيا الدعم السريع تتعامل مع هذه القواعد كأنها توصيات لا تُلزمها. ومع ذلك، لا تتحرك المنظمات الدولية إلا بخطوات بطيئة، كأن الزمن في دارفور لا يُقاس بحياة البشر، وواقعهم المتمدد في المحنة.
الفاشر كاشفة لانهيار الضمير العالمي
تاريخيًا، كانت دارفور في 2003 منطلقًا لأكبر مأساة إنسانية في إفريقيا مطلع القرن، انت بيوناميد،ومع ذلك، لم يتعلم العالم شيئًا. اليوم، يعيد التاريخ نفسه، لكن بصورة أشد قسوة: مدن تُباد بالكامل، سكان يُهجّرون في مواكب النزوح، وأطفال يولدون تحت الخيام بلا وطن ولا هوية ولا دواء او غذاء او خيمة تأويهم. الصور القادمة من الفاشر تشبه – بل تتجاوز في بعض تفاصيلها – مشاهد البوسنة وسربرنيتسا ورواندا. لكن الفرق أن العالم وقتها تحرك، ولو متأخرًا، أما الآن فهو يكتفي بالمشاهدة، وكأن ما يجري لا يعنيه. إنه انهيار الضمير العالمي أمام مأساة سودانية خالصة، لأن الضحايا هذه المرة لا ينتمون إلى دائرة النفوذ الغربي ولا يشكلون تهديدًا مباشرًا لمصالحهم ليمضي مخططهم في تمزيق البلاد .
ما وراء الخطاب الأميركي
من المدهش أن تطالب أصوات في الكونغرس الأميركي بتصنيف مليشيا الدعم السريع كجماعة إرهابية، بينما تظل الإدارة التنفيذية مترددة في اتخاذ القرار.يبدو أن البيت الأبيض يخشى أن يؤدي مثل هذا التصنيف إلى قطع خطوط الاتصال غير المعلنة مع بعض العواصم الداعمة للمليشيا، وعلى رأسها أبوظبي.
لكن هذا التردد يضع واشنطن في موقف أخلاقي هش: فهي من جهة تعلن التزامها بحقوق الإنسان، ومن جهة أخرى تغض الطرف عن انتهاكات ترقى إلى جرائم حرب و الجرائم ضد الإنسانية.إن السياسة الأميركية، بطبيعتها البراغماتية، لا تتحرك إلا حين تتقاطع الأخلاق مع المصلحة.
ولذلك، فإن السودان يحتاج إلى إبقاء جزرة الفجيعة متقدة بدبلوماسية نشطة ومبادرة، قادرة على صياغة خطاب جديد يخاطب دوائر القرار الأميركية بمنطق المصلحة المشتركة: أن دعم الدولة الوطنية في السودان يعني حماية الاستقرار والامن في القرن الإفريقي والبحر الأحمر، وهو ما يصب في مصلحة واشنطن ذاتها.
ماذا بعد هذا الصمت!؟
استمرار العجز الدولي لا يعني فقط إفلات الجناة من العقاب، بل يعني أيضًا تشجيع ثقافة الإفلات.فالمليشيا، وهي ترى العالم صامتًا، تزداد جرأةً في ارتكاب مزيد من الجرائم، وتتعامل مع القانون الدولي كأنه مسرح بلا جمهور.والضحايا، وهم يشاهدون المجتمع الدولي يكتفي بالتنديد، يفقدون الثقة في العدالة والشرعية الدولية.
هذا الوضع يخلق حلقة جحيمية: صمت يؤدي إلى جريمة، وجريمة تفضي إلى مزيد من الصمت، حتى يصبح الدم لغة السياسة الوحيدة.
إن الفاشر اليوم ليست مجرد مأساة سودانية؛ إنها اختبار حقيقي للضمير الإنساني، وسؤال أخلاقي مطروح على العالم وعلى العدالة الوطنية قبله: هل ما زالت حياة الإنسان في بلادنا تساوي شيئًا في ميزان العدالة الدولية؟.
نحن بحاجة إلي هيئة قضائية وطنية مستقلة لتأسيس وتحرير الرواية السودانية بفريق عدل قومي مستقل ومنظومة قضائية متكاملة ، للنظر في الجرائم التي باتت متوفرة بالاسماء والتسجيل والتاريخ وتسلسل الاحداث والصورة .. ما اكثر الخبرات والكفاءات لتفعيل القانون في بلادنا بتاريخه وارثه، لقطع الطريق اما المتربصين بالعدالة الوطنية من الخارج .
خاتمة: حين تموت العدالة… لا يولد السلام
العدالة ليست ترفًا قانونيًا ولا شعارًا سياسيًا؛ إنها الأساس الأخلاقي لأي سلام ممكن.وما لم يتحمل العالم مسؤوليته في محاسبة المجرمين ووقف الدعم الخارجي للمليشيا، فإن الحرب ستستمر، وسيُكتب في تاريخ الأمم المتحدة أن دارفور سقطت مرتين: مرة حين احترقت، ومرة حين صمت العالم عنها.إن الفجوة بين النصوص والواقع باتت فضيحة أخلاقية كبرى.
ففي الوقت الذي تُرفع فيه الشعارات عن “الحق في الحياة”، يُترك آلاف المدنيين في الفاشر يموتون عطشًا وجوعًا ورعبًا. وفي حين تتحدث العواصم الكبرى عن “النظام الدولي القائم على القيم”، ينهار النظام ذاته أمام أول اختبار حقيقي للإنسانية من فاشر السودان والسلطان.
إن ما يحدث في السودان اليوم من بوابته الغربية ليس مجرد صراع على السلطة، بل معركة على معنى العدالة ذاتها والكرامة وحياة امة بكاملها.فإذا لم يُحاسب الجناة، ويصنف التمرد كجماعة ارهابية ولم تُحمَ حياة الأبرياء، فإن العالم بأسره يكون قد تنازل عن جوهر إنسانيته.
وحين تموت العدالة في الفاشر، لا يولد السلام في أي مكان آخر.وان الهبة السودانية الوطنية بالداخل والخارج، وملاحمها التي تنتظم كفيلة برد العدوان وكتابة نصر مختلف بارادة ابناء هذه الامة التي قدمت كل التضحيات ولم تستبق شي.
⸻
٢ نوفمبر ٢٠٢٥ م



