عادل الباز
1
نظرية الفوضى الخلاقة تقول (إنَّه عندما يصل المجتمع إلى أقصى درجات الفوضى المتمثلة في العنف الهائل وإراقة الدماء، وإشاعة أكبر قدر ممكن من الخوف لدى الجماهير فإنَّه يُصبح من الممكن بناؤه بهوية جديدة)، ترى هل هذا هو المطلوب من حربنا هذه؟
بناء هوية جديدة للمجتمع السوداني؟
الفوضى تبقى فوضى ولن تبني أية هوية جديدة لمجتمع ما، إذ لم تستطع أمريكا أن تنجز فوضى خلاقة ولا غيرت هوية أي من المجتمعات التي غزتها (طالبان عادت أكثر تشدداً)، صنعت أمريكا الفوضى فعلاً في كل الأماكن التي غزتها، واتضح أنها مدمرة، تماماً كالفوضى غير الخلاقة التي تحاول أن تبثها قوات التمرد السريع في الخرطوم.
2
تدخل الحرب الآن واحدة من أخطر مراحلها، وهي المرحلة التي لا يستهدف فيها التمرد الوصول إلى السلطة، بعد أن يئس من أن يتسنمها بانقلابه، إنما يستهدف تدمير الدولة نفسها بأمل النجاة من المحرقة، حين ننظر في الشاشات إلى ما يجري يتوهم الناس أن ذلك يحدث بلا هدف، أو أنها مجرد سرقات ونهب، الحقيقة أن ذلك يندرج ضمن الخطة الأصلية التى تتضمن المراحل (أ، ب، ج، د)، التي بدات بالانقلاب، واستمرت حتى وصلنا لهذه المرحلة.. مرحلة الفوضى غير الخلاقة.. وغير الأخلاقية.
3
فشل مشروع آل دقلو السياسي والعسكري وحلفائهم حين غامروا بالانقلاب على السلطة القائمة، واعتقدوا أن الأمر نزهة تنتهي بقتل البرهان وقيادات القوات المسلحة وإعلان قيادة جديدة، مشتراة جاهزة للتوقيع على الإطاري مع ثلة من العملاء بالداخل، ويتبع الخطوة تأييد تام من ما يسمى المجتمع الدولي، الخطة جاهزة.. حُشد لها 3200 عربة مدججة بالسلاح، مع 60 إلى 70 ألف جندي كانوا جاهزين للحظة التاريخية.. كانت كل المقار الحكومية تحت تصرف المتمردين؛ القيادة العامة، القصر الجمهوري، الإذاعة والتلفزيون، المطارات، المصفاة، باختصار كل المرافق الاستراتجية تحت قبضتهم في ساعة الصفر، ولكن المغامرة انتهت في الساعات الثلاث الأولى، وتلاشت بأمر خمسة وثلاثين شهيداً من أنضر وأشجع فرسان السودان.. كانوا على أهبة الاستعداد لأن يفدوا قيادة الجيش بما تحمله من رمزية للدولة السودانية.. ولكن بما أن الإصرار والاستعداد كانا كبيرين ظلت المحاولات قائمة للسيطرة على القيادة العامة وقتل قائد الجيش، وتلك المحاولات أيضاً لم تستمر إلا ثلاثة ليالٍ، حتى فشلت وتقهقر المتمردون إلى ثكناتهم، التي ما لبثت أن دُمِّرت في غضون أسبوع، فهاموا على وجوههم فى الشوارع والأزقة، إلى هنا انتهت المرحلة (أ) من مشروع الانقلاب بواسطة متمردي الدعم السريع.
4
ما أن بدأت ملامح سقوط المرحلة الأولى من خطة دقلو إخوان وحلفائهم على السلطة حتى استلت الخطة (ب)، وهى صرخة ( لا للحرب) بواسطة الحلفاء المدنيين، وهي في جوهرها تستهدف إنقاذ المتمردين من السحق الشامل، بأمل إعادة تموضعهم مستقبلاً في الساحة السياسية كجناح عسكري، وإنقاذ ما تبقى من قواتهم، تلك المرحلة أيضاً وكما ظهر باءت بالفشل، ولم تجد من بين السودانيين من يهتف لها إلا بعض الأصوات الناشزة، من عملاء الدفع المقدم في الأسافير، وبعض المهرطقين في قنواتٍ معلومة التوجه، إلا أن جموع الشعب السوداني لم تابه للعويل، ومنحت دعمها وكامل ثقتها للجيش كي يسحق التمرد، وصمَّت آذانها عن دعوات لا للحرب بل ساوتها بالخيانة والخيابة.
5
الخطة (ج) من مراحل العملية تستند إلى ما يسمى بالمجتمع الدولي، الذى لم يتوانى، إذ جاء مهرولاً للتدخل تحت دثار الحالة الإنسانية، في ما اعتبره كل العالم شأناً داخلياً، قبل أن يغير بلينكن رأيه خلال 72 ساعة، ليصبح قمع التمرد مهدداً للأمن القومي الأمريكي!
هكذا أُطلقت دعوات الهدنة، ولوقف الحرب الأمر الذي أصبح مستحيلاً، لأنهم يعلمون أن قوات التمرد لم يعد لها مركز للقيادة والسيطرة، وللمرة الأولى يصدح فولكر بيرتس بالحقيقة، حين قال إن الهدنة بلا جدوى، لأن منظومة القيادة والسيطرة لقوات المتمردين تم القضاء عليها في الساعات الأولى من الحرب، ولم يعد ممكناً صرف الأوامر لها، ولكن وبرغم إدراك المجتمع الدولي لتلك الحقيقة ظل يدفع الأطراف لإعلان الهدنة المتكررة والفاشلة، إلى أن وصلنا الهدنة السابعة من دون أن يتوقف القتال لحظة.. بمعنى لم يستطع المجتمع الدولي أن ينقذ القوات المتمردة من السحق حتى هذه اللحظة، ولا زالت مفاوضات جدة التي انطلقت قبل أيام من دون أي تقدم ولا اتفاق على أي شيء.
6
فشل الهدن والضغوط على قيادة الجيش المتماسكة وكيف لا والشعب كله خلفها قاد للخطة (د) والتى أهم متطلباتها إطالة أمد الحرب وجعلها فوضوية بدات بكسر السجون واطلاق سراح الالاف من المجرمين لتسريع وتعظيم الفوضى وترويع الآمنيين والاحتماء بالبيوت والنساء والأطفال، ثم مضى المتمردون ليستهدف مؤسسات الشعب ولم يستثنوا حتى المستشفيات التي حولوها إلى ثكنات عسكرية وحولوا مؤسسات القطاع الخاص ومصانعه إلى رماد بحرقها ونهبها.. ثم سارعوا للاستيلاء على أموال البنوك والمواطنين ونهب عرباتهم وإذلالهم، وذلك كله لاطالة امد الحرب لعل وعسى تفلح الضغوط الخارجية فى ايجاد مخرج ما من السحق الكامل للتمرد..وهيهات لابد انهم ينتظرون غودو الذى لن ياتى ابدا .
7
هناك المرحلة الأخيرة من مراحل الفوضى غير الخلاقة، لا أود الحديث عنها الآن، لأننا لم نصلها بعد، ولكن إذا قررت قيادة قوات المتمرد أن تصلها، فإن ذلك سيفتح عليها أبواب جهنم.. برغم الحرب والقتال لم نصل في يوم من الأيام إلى الدرك الأسفل.
8
وأخيراً أود أن أنبه قيادة ومسؤولي متمردي الدعم السريع إلى أن بعض الظواهر التي بدأت تطل برأسها وهى لا تشبهنا كسودانيين، مثل إذلال النساء وأخذهن رهائن، وتشغيلهن خدماً، ليخدمن المتمردين المحتلين في بيوتهن، وهناك تقارير حول حالات اغتصاب ترتكب بواسطة أفراد في تلك القوات.. بالأمس قال الرئيس البرهان لقناة القاهرة الإخبارية (متمردو الدعم السريع يغتصبون الحرائر ويحتلون البيوت وينهبون الممتلكات ويعطلون الخدمات).. أرجو أن تحذر قيادة المتمردين منسوبيها المتمردين، وتطلب منهم أن يكفوا عن مثل تلك الحماقات فوراً والحروب فيها أخلاق برضو، وإذا تمادوا في تعديهم على الأعراض فإن الحرب لن تكون بينهم والجيش فقط، إنما مع والشعب كله.. يهون الحرق والنهب والسرقة وحتى القتل، أما أن تصل الانتهاكات إلى العروض وتحويل الحرائر إلى عبيد للمتمردين المحتلين.. فذلك سيغير طبيعة المعركة كلها.. ووقتها لا أرض ستسعكم ولا سماء، فاحذروا.