صراع الإرادات: إرهاب الغزاة بالمسيرات أم سيادة الدولة و كرامة شعبها!؟

في لحظةٍ مليئةٍ بالمرارة والإصرار والجسارة تتقاطع فيها خرائط المأساة مع قدرات الشعب على الصمود: حين أعلن مستشار الإدارة الأميركية وجود مسعى لفرض «هدنة إنسانية» على ركام مأساة الفاشر، فيما ردت القيادة السودانية بصوتٍ واحدٍ يرفض تحويل سيادة الدولة إلى «صفقة في مزاد استكباري» مع مليشياٍ متمردة. تلك المواجهة — بين محاولة ارهاب الغزاة لشعبنا بتدوير المعاناة كحلّ سريع وبين قرارٍ وطنيٍّ يمتد في عمقه إلى تاريخ طويل من النضال والتضحيات — هي مشهد السودان اليوم. وقائد البلاد يشعل الساحة بتصريحاته التي تشبه أمته وجيشها، فتغيظ العدا فتطلق الإمارات بحنق وقسوة مسيراتها في فجر الجمعة وصوت الآذان للفجر.
عبر هذه التصريحات الواثقة يؤكد رئيس مجلس السيادة، وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان،أن الجيش «ماضٍ في دحر المليشيا المتمردة والقضاء عليها » وأن قبول هدنةٍ على حساب سيادة الدولة وقيمها ليس خياراً يُقَبَل به. جاءت تصريحاته حاسمةً، تحمل رسالةً ناجزة تؤكد تمسّك القيادة بمقاييس سيادةٍ لا تجاورها أنصاف الحلول او مساومات، وبعزيمةٍ لا ترفع الركوع لغير الله ، وعزم على استعادة الأرض والأمن للمدن والامان للناس، وان هذا الشعب عصي على الاستسلام والانكسار.
من جانب آخر، حاولت دبلوماسيةٌ الفشلة عبر بوابة الرباعية أن تصيغ هدنةً على «أطلال الفاشر» وقد رفضتها من قبل عندما طلبها الامين العام للامم المتحدة في يونيو ٢٠٢٥ لاسباب إنسانية . وقبلتها الان لتخفيف الضغط الدولي عليها من واقع المجازر التي ارتكبتها في الفاشر. و ربما سعت ايضا لاضعاف وخلخلة التماسك الداخلي وتلاحمه مع القيادة.وكذلك لفرض سياسة الأمر الواقع بما يمكنها من السيطرة على كامل ولايات دارفور. لكن الهدنة التي تُعلن من دون ضمانات عملية لحماية المدنيين أو لاقتلاع مصادر الميليشيا للسلاح والعتاد والمرتزقة،تبقى هدنةً على ورقٍ تتشقق عند أول رصاصة. كثيرون يرون أنّ هذه المبادرات، مهما كانت دوافعها، لا تلتقط جوهر المأساة والكارثة : كرامة شعبٍ لا تُقايَض، وحاجةٍ لإجراءات تُعالج جذور الأزمة لا أن تغطي رمادها، وواقع الناس بين النزوح والتهجير القسري وغياب الدعم الإنساني وصمت الامم المتحدة وموت مصداقيتها بغياب ضميرها .
في الميدان ــ حيث تتراكم المشاهد وتحفر آثارها في ذاكرة المدينة والريف كما تعلنه المنصات العالمية ــ تتواصل الهجمات الوحشية بالطائرات المسيّرة، وتتعرض أحياء ومدن لغاراتٍ تركت ضحايا ونزوحاً واسعاً. هذا العنف التقني الجبان في ايدي القتلة من عربان الشتات لمواصلة المقتلة، صار أداةً في يد ميليشيا وظيفية في مشروع تفكيك أجنبي متمدد، يلقي بظلاله على كل محاولات التهدئة غير المشروطة ويصعّب مهمة حماية المدنيين وإيصال المساعدات الإنسانية. لهذه الخلفية فإن القبول بهدنةٍ لا تضع آليات ملموسة لوقف هذه الأساليب يعني ترك المدنيين فريسة للتهديد والتجويع والتآمر الخارجي، وتجارب البلاد شاهدة في اتفاق جدة.
لكن أعظم خبرة يمنحها هذا المشهد هي خبرة الشعب السوداني في الصبر المقاوم. من الفاشر وعطبرة إلى الدامر وكرري وأم درمان، شهدت الساحات هبة مسيراتٍ وتظاهراتٍ ووقوفاً شعبياً خلف قيادته وشرعيته الوطنية. هذا التلاحم بين الشعب والقيادة ليس مجرد رد فعلٍ عاطفي، بل هو علامة على استمرار امتلاك الدولة و المجتمع زمام المبادرة ثقة في الله وفي القيادة، لمرتكزات ملحمة وطنية قادرة على إعادة الصياغة بعد إعصار العنف والانتهاكات الممنهجة: مؤسساتٌ تحاول أن تتلمس طريقها بين بقايا التدمير، وجماعات مدنيةٌ وطنية ترفض أن تُستبدل سيادة الشعب بصكوك هدنةٍ لا تساوي شيئاً أمام الدم والدمار والمعاناة والجراح والفقد العزير …
الاختبار الحقيقي الآن هو قدرة المجتمع الدولي والإقليمي على التفريق بين هدنةٍ حقيقية تضمن حماية المدنيين، وتكفل حقوق الإنسان في العيش الكريم، وفق محددات الدولة بإجراءات سياسية تراعي سيادتها. وبين «هدنةٍ» تكتيكية كيدية منزوعة الإرادة تُمنح للمتمرد كي يعيد ترتيب صفوفه ويُعيد تنفيس الغاز المتفجر في المدن والأرياف والممتلكات العامة. أما الاختبار الداخلي، فهو قدرة القيادة الوطنية والمجتمع المدني على تحويل لحظة الصمود هذه إلى خارطة طريق وخطةٍ واضحة لحماية المواطنين وإعادة بناء مؤسسات دولة قادرة على فرض القانون ودولة المؤسسات، واحتواء التنوع السياسي دون إخضاع السيادة لابتزاز السلاح والنفوذ المادي ومخططات الخارج .
في فضاء الخطاب العام تبرز تساؤلاتٌ أخلاقية وسياسية: هل ستكون هناك هدنة تُهيئ لعملية سياسية عادلة وقد بانت أشراطها ووجهتها على نحو ما تريده الرباعية والراعي الاقليمي الذي يعمل جاهدا لسلب شرعية الدولة ومنحها للغزاة!؟.. أم هدنةٌ تُعطي للتمرد فرصةً ليستعيد أنفاسه ويستمر في قتل الحلم الوطني؟ ويتمادى مشروعه في الهدم والخراب والتدمير والإفقار والارهاب؟ هل ستُترجم تصريحات الرفض إلى سياساتٍ عملية للمحافظة على حفز الأرواح المشرئبة للنصر أو الـشهادة لمواجهة التحدي بالتصعيد؟ الإجابة تتطلب مزيجاً من العزم العسكري الميداني على حماية الأرض، ومن استعداد فكري و دبلوماسي وتلاحم داخلي يضع شروطاً لوقفٍ دائمٍ ومستدام، تقبله الدولة وشعبها لا أن يفرض عليها، لتلتفت من بعد الي برنامج إعادة الإعمار والتأهيل والحماية للمدنيين وصيانة النسيج المجتمعي.
ختاماً: صمود السودان اليوم ليس مجرد مواقف وتصريحات أو مسيرات في الشوارع، بل هو اختبارٌ لكرامة الأمة وقدرتها على رفض أن تُباع حرّيتها على مائدة المصالح العابرة وتفكيك البلاد وتمزيقها . إنّ من يقف الآن أمام خيار التاريخ، فليعلم أن التاريخ يُقَدِّر أولئك الذين يضعون البلاد في حدقات الأعين والفؤاد، يختارون الصمود لا التنازل في كبرياء وشموخ ؛ وأنّ الأجيال لن تنصف إلا من حملوا مسؤولية الوطن بجدارةٍ وإيمانٍ لا يلين. هذا الصمود — بصمت الشهداء وبعزيمة الأحياء والجرحى والمشردين— هو العنوان الحقيقي، والقيادة والشعب وحدهما بصمودهم من يكتب فصله التالي بخطٍ جريء على صفحات تاريخ البلاد وكرامة امتها. هذه هي الإرادة السودانية التي تقف اليوم امام تتار العصر والمغول الجدد بصبر وثبات يعقبه نصر. هذه هي عزيمة قادة السودان في النزال لاجل الوطن والقضاء على التمرد ودحر الغزاة، وصد باطلهم وطبولهم التي ستمحوها جحافل النصر الهادرة من كل بقعه في البلاد ، نصرة لدارفور و فاشر السلطان، ومدن وفلوات كردفان العزيزة الغره ام خيرا جوة وبرا. معاني وقيم ورسائل تسطرها ملاحم البلاد وتلاحم القيادة والشعب يقف بجلد وثبات امام هذه الهجمة البربرية على شعبنا ومقدراتنا . وعلى الباغي تدور الدوائر…
————-
٧ نوفمبر ٢٠٢٥م



