الرواية الأولى

نروي لتعرف

الرواية الأولى / مجدي عبدالعزيز

صحفيون لا أدوات

مجدي عبدالعزيز

حين أتناول قضايا الأداء الصحفي والإعلامي، أو أضيء على بعض السلوكيات والممارسات داخل الوسط، لا أكتب من منصةٍ عاجيةٍ تعلو على الزملاء، ولا أضع نفسي وصياً ممسكاً بقلم التصحيح يُحصي الأخطاء أو يُشهر بها. ولستُ أزعم لنفسي كمالاً أو أمتلك تفويضاً لمحاسبة الآخرين.
لكن حين يتعلق الأمر بقضايا عامة وخطيرة تمسّ الوطن وتمتد آثارها لتُصيب المهنة والزملاء والمجتمع في آنٍ واحد، فإن واجب الصدع بالرأي يصبح فرض عين. وهو صدعٌ لا تحركه الرغبة في التعالي، بل تدفعه الغيرة على الوطن، والشفقة على المهنة، والحرص على الزملاء، انطلاقاً من القاعدة النبوية البليغة: “انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً”؛ والنصرة في حال الظلم لا تكون إلا بنصحه، وتنبيهه، وتقويمه، لا بالتشجيع الأعمى.

إن وظيفة الصحافة في كل زمان ومكان لم تكن أبداً مجرد ترديد للأصوات العالية، أو مطاردة مثيرة للسبق مهما كانت كلفته. الصحافة وُجدت لتكون عينًا ناقدة وشاهدًا أمينًا وصوتًا راسخًا في خدمة الحقيقة. وهي تتعامل مع الشأن العام من بوابات الأخبار، والتحقيقات، والتحليلات، والرأي، والمقال، لا من نوافذ الوهم والإثارة والتسريب غير المسؤول.

في الآونة الأخيرة، وبلادنا تخوض حرباً ضروساً ضد مشروع تفكيكي إرهابي مدعوم من الخارج، انفجرت على سطح الممارسة الإعلامية ظاهرة خطيرة: التسريبات الصحفية. لا نتحدث هنا عن “تسريبات” تضع الحقيقة أمام الرأي العام بكفاءة ومهنية، بل عن سيل جارف من المعلومات المُنقوصة أو المسمومة أو المشحونة بنوايا التفتيت، التي أضحت القالب الأول في بعض المنصات.
خطورة هذه التسريبات لا تكمن فقط في أنها تُنشر على رؤوس الأشهاد، بل في أنها تمس الأمن القومي مباشرة، وتهدد السِّلم الاجتماعي، وتزرع الفتنة بين القيادات، أو بين المكونات المجتمعية، أو حتى داخل البنية الاقتصادية عبر تشويه صورة رجال أعمال ومؤسسات وطنية.
والأخطر أنها لا تصدر – في كثير من الأحيان – عن هواة أو نشطاء مجهولين، بل عن صحفيين مرموقين، يحملون أقلاماً لها وزنها في صناعة الرأي العام.

نعم، من حق الصحفي – بل من واجبه – أن يمتلك المعلومة وأن يُخبر بها، وأن يضعها في إطارها المهني النزيه، بعيداً عن التشويش أو التوظيف المدفوع. لكن من واجبه أيضاً أن يُجري الموازنة، ويقارب بين مصلحة النشر ومآلاته، وأن يُخضع القنبلة التي بين يديه للفحص: أهي صاروخ ذكي يصيب هدفاً مشروعاً؟ أم هو قصفٌ عشوائي يضرب استقرار وطن برمته؟
إن البعض – وللأسف – صاروا يتعمدون هذا النهج، ويستمرئون لعب دور القنابل الإعلامية المدفوعة، غير عابئين بالنتائج. وهنا، لا بد من التوقف لنُعيد ترتيب العلاقة مع أدواتنا، ونتأمل إلى أين نمضي بهذه المهنة.

وفي المقابل، لا بد من الدفاع القاطع عن حق الصحفي في أن يُمارس دوره كاملاً: في الحصول على المعلومة، وتحليلها، ونشرها، وإبداء الرأي الحر، كل ذلك في إطار المهنية لا المهاترة، والمسؤولية لا التورط.

وها نحن اليوم نعيش لحظة فاصلة في تاريخ وطننا الجريح.
لحظة بدأت فيها الانتصارات العسكرية تتوالى على قوى الشر والعدوان، وبدأت تباشير الاستقرار تلوح عبر تشكيل حكومة الأمل التي تبعث فينا الأمل.
في هذه اللحظة، يصبح من الضرورة – بل من الواجب – أن نُعيد النظر في ممارسات زمن الهشاشة والانفلات. وأن نُراجع أنفسنا بصدق، ونُعيد الاعتبار للمهنة، ونُثبت لا بالأقوال بل بالممارسة، أننا صحفيون لا أدوات. لا أدوات في يد أجندات بعينها ، ولا منصات مأجورة لخلق الوقيعة، ولا جسوراً تُعبر بها المؤامرات إلى مجتمعاتنا.

إن الصحافة – كما الجيش والدبلوماسية والاقتصاد – هي سلاح من أسلحة الوطن، وإن لم نُحسن استخدامه بحكمةٍ وشجاعة، فسيتحول إلى عبءٍ على الأمة بدل أن يكون درعاً لها.

،، والي الملتقي ..

اترك رد

error: Content is protected !!