
عندما فرضت حكومة الاحتلال البريطاني في السودان قانون المناطق المقفولة لعام 1922 الذي يحظر دخول مواطني شمال السودان إلي جنوبه ، كان الهدف من ذلك القانون اقامة حاجز ثقافي واداري يؤدي في نهاية المطاف الي قطع اواصر التواصل والحوار الانساني السلمي بين شطري القطر وخلق وضع جيو- ثقافي متعسف يرسخ روح التباعد المادي والوجداني بينهما ليكون قاعدة للانفصال.
ثم جاء مؤتمر الرجاف للغات ليواصل سياسة قطع ذلك التواصل ويستهدف بالتحديد –ومباشرة – وجود اللغة العربية وتداولها في جنوب السودان. ولم تكن حكومة الاستعمار البريطاني في السودان تلتفت في هذا الصدد الي اي منطق سليم او سلوك عقلاني بقدر ما كان يهمها استثمار المبدا الانتهازي ( فرق تسد) الذي يتيح لها التمكن والهيمنة علي ذلك الجزء من السودان وتقرير مستقبله بعيدا عن اي تاثير ياتي من الشمال مهما كان طبيعيا.
كانت توصيات مؤتمر الرجاف الذي انعقد بجنوب السودان في الفنرة من 9 الي 14 ابريل من عام 1928 عملا صريحا لعزل اللغة العربية عن جنوب السودان منذ قرن من الزمان . وقد نشرت حكومة السودان مداولات وتوصيات هذا المؤتمر في نفس العام باللغة الانجليزية غير انه لم يترجم الي العربية الا بعد ان غيض الله لي ترجمته قبل بضع سنين.
فيما يلي ملخص للجوانب المتعلقة بتكوين وتنظيم ذلك المؤتمر مع التركيز علي التوصيات التي خرج بها في شأن اللغة العربية :
تكون المؤتمر من عضوية 5 ممثلين للحكومة من بينهم ج. ج. ماثيو( رئيس الجلسات) مدير التعليم والصحة و س. هللسون : مساعد مدير المخابرات الي جانب 7 ممثلين للجمعيات التبشيرية الكنسية الانجليزية والامريكية والايطالية العاملة في جنوب السودان وجبال النوبة او المتمركزة في دول الجوار ( يوغندا والكونغو البلجيكي ) واستعان المؤتمر بخبير في اللغات الافريقية هو البروفسور وسترمان مدير المعهد العالمي للغات والثقافات الفريقية ، مستشارا له.
ركز المؤتمر في مداولاته وتوصياته علي نقطتين رئيستين :
أ – تطوير اللهجات المحلبة القبلية لتكون وسائط تعليمية في المرحلتين الاولية والوسطي
مع ايجاد لغة مشتركة للتواصل والتعليم من بين تلك اللهجات القبلية.
ب – ان تكون اللغة الانجليزية لغة التدريس في المستوي الأعلي من التعليم مع اقصاء اللغة العربية كلغة تدريس ومخاطبة.
وفيما يتعلق بهذين النقطتين اوصي المؤتمر بالآتي :
أولا : عدم رغبة العديد من المؤتمرين في انتشار اللغة العربية بمكاتب الحكومة وبين جنود الجيش والشرطة والتجار العرب واستبعادها كلغة مجتمع بجنوب السودان ، ويشيرون إلي سياسة الحكومة الرامية لاستبدالها بالانجليزية تدريجيا وقرارها في عام 1927 بتقليص المدارس التي تكون فيها العربية لغة التدريس.
ثانيا : البحث عن لغة اخري – بديلا عن العربية – لتكون لغة تواصل بين القبائل حيث اقترح بعض المؤتمرين ادخال لغة البنقالا السائدة في الكونغو البلجيكي او السواحلية السائدة في شرق افريقيا كحل مؤقت.
ثالثا : استنكار قيام مدرسة في ملكال تستخدم العربية لغة للتدريس في وجود لغة بديلة هي لغة الشلك.
لكن المؤتمرين اعترفوا بتحدي انتشار اللغة العربية في جنوب السودان وعبروا عن ذلك بعدد من الحقائق منها ان بعض المجتمعات الجنوبية تحتاج إلي استخدام اللغة العربية في مدارسها وقد تغاضت الحكومة عن هذا الوضع خشية قيام نظام تعليمي لايمكن السيطرة عليه .كذلك اعترف المؤتمرون باستحالة رسم خط فاصل بين حدود بعض مناطق الجنوب مع الشمال ( دار فور مع بحر الغزال مثلا ) مع تعذًر منع الصلات الادارية بين الشمال والجنوب في تلك المناطق. وفي محاولة مستميتة للحد من انتشار العربية اوصي المؤتمرون باستبدال الحرف العربي بالحرف اللاتيني في حالة استخدام اللغة العربية في المدارس رغم مافي هذه التوصية من مخاطر علي التهجئة الصحيحة.
خلاصة القول ان توصيات هذا المؤتمر قد كشفت عن النوايا غير الحميدة بل وغير المنطقية للمؤتمرين تجاه اللغة العربية كما كشفت مقاصد التحالف الاستعماري – الكنسي لمحو هذه اللغة من جنوب السودان الامر الذي عجزت عنه كل المحاولات السابقة واللاحقة والحالية ( من يصدق ان عدد الصحف التي تصدر بالعربية في جوبا اليوم تفوق مثيلاتها الصادرة بالانجليزية
رغم قانون الذي جعل الانجليزية لغة الدولة الرسمية !)..حقا ان مبدا ( فرق تسد ) ماركة بريطانية مسجلة وملكية فكرية ذرائعية وجدت في الكنيسة سندها وعضدها لتجريب اسلوب التفرقة عبر مؤتمر الرجاف للغات. اليوم تغيرت أساليب الماركة المسجلة في تكريس التفرقة بين اقاليم السودان بعد انفصال الجنوب ، عبر شعارات التهميش والمظلومية التي يرفعها ،وكلاء تلك الماركة المسجلة من سياسيي الغفلة امثال عبد العزيز الحلو واضرابه من متبطلي السياسة ، لفصل دار فور ، فتامل.