الرواية الأولى

نروي لتعرف

هموم وقضايا / السفير د. معاوية التوم

زيارة البرهان إلى الرياض: إعادة هندسة الموقع السوداني في معادلة الإقليم واختبار جديّة المبادرة السعودية–الأميركية

السفير د. معاوية التوم


في توقيت تسعي فيه المليشيا لفرض واقع جديد باسقاط بعض المدن الخاوية من السكان بدعم خارجي، تتقاطع فيه الضغوط الدولية مع إعادة ترتيب الأولويات الإقليمية. جاءت زيارة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة والقائد العام للقوات المسلحة السودانية، إلى المملكة العربية السعودية، لتفتح باباً واسعاً للأمل وللتأويل السياسي، ولتضع السودان مجدداً في قلب تفاعلات إقليمية ودولية لم تهدأ منذ اندلاع الحرب في أبريل ٢٠٢٣. ولم تكن أهمية الزيارة نابعة من رمزيتها البروتوكولية، بل من طبيعة اللقاءات النوعية التي أجراها البرهان، سواء مع القيادة السعودية ووزير الدفاع الأمير خالد بن سلمان، أو من خلال ما رشح عن لقاء مزعوم بمسعد بولس، كأحد القنوات الأميركية المتقدمة في التعاطي مع الملف السوداني، وما ساد في الاجواء من رفض للرباعية والهدنة على الطريقة التي يريد فرضها التمرد ورعاته على المشهد.. تزامنت الزيارة ايضا مع تطورات ميدانية نوعية في الفاشر، بابنوسة، وهجليج، جعلت من إعادة قراءة التوازنات أمراً ملحاً، ومن اختبار المبادرة السعودية–الأميركية ضرورة استراتيجية لا ترفاً سياسياً، من شأنها أن تنقل البلاد من حملات الاستنزاف والابتزاز الخارجي الي حلول للازمة مبتكرة وقابلة للتطبيق .
أولاً: سياق إقليمي ودولي متحوّل
لا يمكن قراءة الزيارة بمعزل عن تحولات أوسع:
• إقليمياً، بات استمرار الحرب السودانية عبئاً أمنياً مباشراً على محيط البحر الأحمر والقرن الإفريقي ودول الجوار، في ظل تصاعد التهديدات العابرة للحدود، وانتشار السلاح والمرتزقة، وتنامي أدوار الفاعلين من غير الدول.
• دولياً، تواجه الولايات المتحدة وحلفاؤها مأزق إدارة أزمات متعددة، ما يجعل السودان ملفاً «مؤجلاً لكنه غير قابل للإهمال»، خاصة مع تزايد الانتقادات لفشل المقاربات السابقة القائمة على تعدد الوسطاء والوكلاء وتضارب الأجندات والمصالح في مقابل المسعى الجاد للحل.
• سودانياً، تسعى القيادة السودانية إلى تثبيت سردية مفادها أن أي حل سياسي لا يمكن أن يسبق معالجة الاختلال الأمني، ولا أن يتم بمعزل عن إنهاء التدخلات الخارجية التي غذّت الحرب، ورفضها لمكافئة التمرد.
في هذا الإطار، تبدو زيارة الرياض محاولة لإعادة تعريف السودان كفاعل، لا كموضوع، في معادلة الحل، على خلفية المبادرة السعودية الأمريكية، بمقاربة تقفز على إعلان جدة والرباعية المزعومة.
ثانياً: لقاء القيادة السعودية… تثبيت الوسيط لا الراعي
يحمل لقاء البرهان بالقيادة السعودية دلالات كبيرة عبّر عنها في تغريدة خاصة به تتجاوز المجاملات الدبلوماسية. فالسعودية، التي راكمت خبرة تفاوضية في ملفات إقليمية معقدة، لا تسعى – على الأقل ظاهرياً – إلى لعب دور الوصي، بل دور الوسيط الضامن والموثوق. وهذا الفارق جوهري في الحالة السودانية، التي أرهقتها مبادرات بدت أقرب إلى فرض تصورات جاهزة منها إلى تسويات متوافق عليها.
بالنسبة للرياض، يمثل السودان:
• عمقاً استراتيجياً لأمن البحر الأحمر والساحل السوداني مصلحة سعودية تبرر انخراطاً اكبر لها في الحل.
• ساحة لا ينبغي أن تُترك لتوازنات هشة أو نفوذ أحادي وحروب الوكالة.
• اختباراً لمصداقية دورها الإقليمي في إدارة النزاعات، بالشراكة مع قوى دولية كبرى (شبكة امان) لها مصلحة في استقرار السودان ، والتوازن الخليجي والعمق العربي المساند.
أما بالنسبة للخرطوم، فإن هذا اللقاء يفتح نافذة لإعادة بناء الثقة، والحصول على ضمانات بأن أي مبادرة لن تُستخدم لإعادة إنتاج اختلالات ما قبل الحرب، أو لتكريس قوى الأمر الواقع المسلحة او السياسية خارج إطار الدولة والشرعية التي تدعمها المملكة وتعززها بالمواقف .
ثالثاً: لقاء وزير الدفاع… مركز الثقل الحقيقي
يكتسب لقاء البرهان بوزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان أهمية خاصة، لكونه يعكس إدراكاً مشتركاً بأن مركز ثقل الأزمة سوداني–عسكري–أمني بالدرجة الأولى. فالسياسة هنا تابعة للأمن، وليس العكس.
هذا اللقاء يبعث برسائل متعددة:
• أن الرياض تدرك استحالة القفز فوق الشرعية ومعادلة القوة على الأرض.
• أن أي تسوية سياسية يجب أن تُبنى على ترتيبات أمنية واضحة، تشمل وقف تدفق السلاح والمرتزقة ، وضبط الحدود، والمهددات البحرية وإعادة تعريف دور القوات النظامية.
• أن المؤسسة العسكرية السودانية تُخاطَب بوصفها شريكاً أساسياً في الحل، لا مجرد طرف يُطلب منه التوقيع لاحقاً، على خلفية ما تم في إعلان جده في مايو ٢٠٢٣.
رابعاً: مسعد بولس… البراغماتية الأميركية في أوضح صورها
الحديث عن لقاء البرهان او وفده بمسعد بولس في الرياض وجد اهتماماً خاصاً لدي التمرد وأربابه لكنه ليس بالحقيقة ، هو موجود هناك ليقف على رؤية المملكة ومصالحها التي ترى بإعادة منبر جدة المحدث وتتماهي مع الرؤية السودانية المطورة برفض الرباعية. الرجل ظل يعكس نمطاً أميركياً متزايداً في إدارة الأزمات: العمل عبر قنوات مرنة وغير رسمية قبل الانتقال إلى الدبلوماسية الكلاسيكية.
بولس، في هذا السياق، لا يمثل موقفاً نهائياً بقدر ما يجسّ نبض إذا ما اخذ انتقاد السودان لمصداقيته وحياديته ازاء من صرح به سابقا :
• هل لدى البرهان استعداد للدخول في مسار سياسي برعاية مشتركة!؟
• ما حدود التنازلات الممكنة في الخارطة المحدثة؟
• وهل تستطيع السعودية لعب دور الضامن التنفيذي الذي افتقدته واشنطن في مبادرات سابقة، وتستفيد من اخطاء جدة؟
بالنسبة للخرطوم، فإن هذا اللقاء يحمل فرصة مزدوجة: إيصال روايتها مباشرة، دون فلاتر بيروقراطية، وفي الوقت ذاته اختبار حدود الضغط الأميركي على التمرد، وما إذا كان موجهاً فعلاً نحو إنهاء الحرب، أم نحو إعادة ترتيب المشهد السياسي وفق تصورات مسبقة.
خامساً: المكاسب المحتملة للسودان
إذا أحسن السودان استثمار هذه الزيارة، فإن المكاسب قد تكون ملموسة:
1. إعادة التموضع السياسي وإنهاء حالة العزلة النسبية والتقدم بمسار المبادرة المشتركة.
2. تحسين شروط التفاوض عبر وسيط يحظى بثقة واشنطن دون عداء للخرطوم.
3. فتح قنوات دعم إنساني واقتصادي مرتبطة بتهدئة حقيقية.
4. تقليص هامش المناورة أمام القوى الإقليمية المنافسة التي استفادت من غياب مظلة جامعة.
5. إعادة الاعتبار لمفهوم الدولة في مواجهة الفاعلين المسلحين والسياسيين خارج الأطر النظامية.
سادساً: العوائق البنيوية أمام المبادرة
رغم هذه المكاسب، تواجه المبادرة السعودية–الأميركية تحديات حقيقية:
• تعقيدات المشهد العسكري وصعوبة ضبط سلوك أطراف التمرد، او قبول الجيش بالواقع المفروض على الارض .
• تراكم عدم الثقة بين السودانيين أنفسهم، وبينهم وبين الوسطاء بالتجارب.
• غياب آليات إلزام دولية تجعل كلفة خرق الاتفاق أعلى من كلفة الالتزام به.
• تضارب الأجندات الإقليمية، حيث لا تزال بعض القوى ترى في استمرار الصراع ورقة تفاوض أو نفوذ كما تفعل الإمارات.
سابعاً: فرص النجاح… شروط واقعية لا مثالية
نجاح المبادرة لا يتطلب معجزات، بل مقاربة مختلفة:
• تحويل الوساطة إلى شراكة ضامنة.
• ربط السياسة بالأمن الشامل بترتيبات واضحة ومحددة زمنياً.
• الجمع بين الحوافز والضغوط دون انحياز فجّ او ضغط باتجاه احادي ضد الدولة.
• إشراك السودانيين، لا بوصفهم متلقين، بل شركاء في صياغة الحل.
. عدم تبييض المساعدات الإنسانية
خاتمة: فرصة مشروطة لا مضمونة
زيارة البرهان إلى الرياض تمثل لحظة مفصلية، لكنها ليست ضمانة بحد ذاتها. هي فرصة لإعادة هندسة موقع السودان في معادلة الإقليم، واختبار ما إذا كانت السعودية وواشنطن مستعدتين للانتقال من إدارة الأزمة إلى محاولة حلّها وفق تفاهمات تقفز علىً مسالب جدة وتحديث خارطة الطريق السودانية تؤسّس للمبادرة المتوقعة، و تعزز سيادة السودان واردة شعبها . أما الخرطوم، فالتحدي أمامها هو تحويل هذا الزخم الدبلوماسي إلى مكاسب سياسية وأمنية حقيقية، دون التفريط في السيادة او القبول بالأمر الواقع ، أو الوقوع في فخ الحلول السطحية واعادة انتاج المجرب. فالسلام في السودان لن يولد من غرف التفاوض وحدها، بل من توازن دقيق بين الواقعية السياسية واستعادة الدولة لدورها الطبيعي.وان السودان بشعبه وقواته المسلحة و تلاحمهما قادر على هزيمة التمرد ميدانيا ، وقدم كلفة بشرية ومادية مهولة وليس لديه ما يخسره ، إذا استرخصت الأطراف الفاعلة افرازات الحرب او راهنت على قدراته وتجاربها معه فيها شواهد وعبر.
زيارة البرهان إلى الرياض جاءت في لحظة لا تقبل الحلول الرمادية. فهي إما أن تؤسس لمسار يعيد للسودان بعضاً من قدرته على التحكم في مصيره، أو تتحول إلى محطة عابرة في حرب طويلة. وبين الفاشر وبابنوسة وهجليج، تتحدد ملامح السياسة القادمة، وتُختبر صدقية الوسطاء، وتُعاد صياغة السؤال الجوهري: هل يوصد الباب امام الدعم الخارجي للتمرد ، وتوقف حملات الإرباك السياسية و يُسمح للسودان بأن يستعيد دولته، أم يُترك رهينة لصراع مفتوح بلا أفق للحل المستدام!؟
——————
١٧ ديسمبر ٢٠٢٥م

اترك رد

error: Content is protected !!