زيارة البرهان إلى أنقرة: إعادة تموضع استراتيجي للدولة السودانية في زمن الحرب

مقدمة: لماذا أنقرة؟ ولماذا الآن؟
لم تأتِ زيارة رئيس مجلس السيادة والقائد العام للقوات المسلحة، الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، إلى أنقرة في توقيت عادي، ولا في سياق دبلوماسي تقليدي. فالزيارة جرت في ذروة حرب وجودية تخوضها الدولة السودانية، وفي لحظة إقليمية معقدة تتشابك فيها المصالح، وتتراجع فيها المساحات الرمادية بين الحياد والانحياز.
أنقرة، في هذا التوقيت، ليست مجرد عاصمة صديقة، بل فاعل إقليمي صاعد يمتلك أدوات سياسية وعسكرية وصناعية ونفوذ قادرة على التأثير المباشر في موازين الصراع. ومن هنا، فإن قراءة مخرجات الزيارة تقتضي تجاوز ظاهر التصريحات إلى عمق الرسائل والآثار السياسية والاستراتيجية ودقة التوقيت . وعليه ربما شكلت الزيارة محطة بالغة الدلالة في سياق الحرب التي تخوضها الدولة السودانية بتداعياتها الماثلة وشواهدها ، ليس فقط على مستوى العلاقات الثنائية، وإنما أيضًا من حيث إعادة تموضع السودان إقليميًا وبناء شبكة إسناد صلبة للدولة والجيش في مرحلة مفصلية، تتجاذبها المبادرات ورياح المطامع:
أولاً: الرسائل السياسية في تصريحات ختام الزيارة
ما أعلنه البرهان في ختام زيارته اتسم بثلاث سمات أساسية:
1. وضوح توصيف الحرب
البرهان تحدث من موقع رئيس دولة، لا قائد طرف، مؤكداً أن ما يجري هو حرب على الدولة السودانية ومؤسساتها الشرعية، وهو توصيف وجد تفهمًا كاملاً لدى القيادة التركية، بما يعني اعترافًا سياسيًا غير ملتبس بشرعية الجيش ودوره.
2. لغة الشراكة لا الاستجداء
الخطاب لم يحمل نبرة طلب الدعم، بل أكد على تعاون استراتيجي متكافئ، يراعي سيادة السودان وخياراته، وهو تحول مهم في إدارة العلاقات الخارجية في زمن الحرب.
3. تحييد خطاب الوصاية
التصريحات عكست رفضًا ضمنيًا لأي مقاربات خارجية تسعى لفرض حلول تتجاوز الدولة أو تساوي بينها وبين مليشيا متمردة، وهو ما ينسجم مع الرؤية التركية القائمة على التعامل مع الدول لا مع الفواعل غير النظامية.
ثانيًا: أنقرة والبعد العسكري – ما الذي كسبه الجيش السوداني؟
رغم أن تفاصيل التعاون العسكري لم تُعلن، إلا أن السياسة التركية في هذا المجال معروفة المعالم، ويمكن استنتاج عدد من المكاسب الاستراتيجية:
- الصناعات الدفاعية وتوازن المعركة
تركيا أصبحت خلال العقد الأخير لاعبًا رئيسيًا في الصناعات الدفاعية، خاصة:
• الطائرات المسيّرة
• أنظمة الاستطلاع والمراقبة
• الحرب الإلكترونية
• الدعم اللوجستي الذكي
وفي حرب تعتمد فيها المليشيا بشكل أساسي على المسيرات والدعم الخارجي غير النظامي، فإن امتلاك أدوات موازنة أو تحييد هذا التفوق يشكل نقطة تحول ميدانية بالغة الأهمية. - الخبرة في حروب اللامتماثل
تركيا خاضت تجارب معقدة في:
• مكافحة التمرد
• تفكيك الشبكات المسلحة
• إدارة العمليات في بيئات حضرية معقدة
وهي خبرات تتقاطع مباشرة مع طبيعة الحرب الدائرة في السودان، خاصة في المدن الكبرى ومناطق التماس.
ثالثًا: كسر العزلة وبناء شبكة إسناد ذكية
زيارة أنقرة تحمل دلالة أعمق تتعلق بـإعادة تموضع السودان خارجيًا:
• تركيا عضو فاعل في حلف الناتو، ولها علاقات متوازنة مع روسيا، والغرب، والعالم العربي والإسلامي.
• أي انفتاح استراتيجي عليها يعني توسيع هامش الحركة الدبلوماسية للسودان، وكسر محاولات حصاره سياسيًا أو تقييد خياراته العسكرية.
• كما أن تركيا قادرة على لعب دور الوسيط غير المعلن في نقل الموقف السوداني إلى دوائر مؤثرة، بعيدًا عن القوالب الغربية الجامدة والأجندات .
رابعًا: أثر الزيارة على الميدان العسكري والروح المعنوية
لا تُقاس نتائج هذه الزيارة فقط بما تم الاتفاق عليه، بل بما أحدثته من:
• رفع للروح المعنوية داخل القوات المسلحة، عبر الإحساس بأن الدولة ليست وحيدة.
• تعزيز ثقة القيادة العسكرية في الاستمرار في الحسم الميداني دون الرضوخ لضغوط وقف إطلاق نار غير متكافئ.
• تحسين القدرة على إدارة الحرب كصراع طويل النفس، لا معركة تكتيكية عابرة. واحداث التوازن المطلوب للقوة، ورفع معاناة الشعب السوداني
خامسًا: أنقرة في مقابل محاور التدخل والابتزاز
في مقابل محاور إقليمية سعت إلى:
• الاستثمار في الفوضى
• تغذية المليشيات واستمرار الهشاشة
• تفكيك الدولة السودانية من الداخل
تقدم أنقرة نموذجًا مختلفًا قائمًا على:
• التعامل مع الدولة
• احترام السيادة
• تحقيق المصالح عبر الاستقرار لا عبر الخراب ودعم الفوضى.
وهذا التباين يمنح الخرطوم أوراق قوة تفاوضية في أي مسار سياسي لاحق في سياق المبادرة المرتقبة السعودية الأمريكية.
خلاصة استراتيجية
زيارة البرهان إلى أنقرة ليست حدثًا معزولًا، بل حلقة في استراتيجية أوسع لإدارة الحرب وإعادة بناء موقع السودان الإقليمي.
هي زيارة تؤشر إلى انتقال الدولة من موقع الدفاع السياسي إلى هجوم دبلوماسي محسوب، ومن العزلة إلى تنويع التحالفات، ومن الارتهان إلى المبادرات المفروضة إلى صناعة الخيارات.
إنها رسالة واضحة:
ما صدر عن البرهان في ختام الزيارة حمل عدة رسائل مركزية:
• تأكيد متانة الشراكة الاستراتيجية مع تركيا وامتدادها إلى ما هو أبعد من التعاون السياسي التقليدي.
• الإشارة الواضحة إلى تفهم تركي كامل لطبيعة ما يجري في السودان باعتباره حربًا على الدولة ومؤسساتها، لا مجرد صراع داخلي بل هي حرب بالوكالة.
• الحديث عن تعاون عسكري وأمني وفني في إطار احترام سيادة السودان وخياراته الوطنية.
هذه التصريحات، في سياقها، تعكس انتقال الخطاب من طلب الدعم إلى تثبيت التحالف، ومن مرحلة الشكوك الدولية إلى مرحلة الشراكات الواضحة ذات المصالح المتبادلة.
فالدولة السودانية ماضية في حماية سيادتها، وتعزيز جيشها، وبناء شراكات تخدم الاستقرار لا الفوضى، مهما طال أمد الحرب فالحلول تبدو في الأفق ، والتوازن ينتظم، والضغوط ستخف، وعودة النصر الميداني باتت قريبة. وهي تؤشر إلى تحول مهم في إدارة المعركة: من الدفاع تحت الضغط الدولي، إلى بناء تحالفات استراتيجية عملية تخاطب منطق القوة والاستقرار، لا منطق الوصاية والإملاءات
⸻———
٢٨ ديسمبر ٢٠٢٥ م
.



