الرواية الأولى

نروي لتعرف

من اعماقي / د. امجد عمر

رئيس شرف المحاولة

د. امجد عمر

في مجتمعاتٍ كثيرة، تُقاس القيمة غالبًا بمقدار ما يُنجز، لا بما يُحاول. لكن الحقيقة التي يغفل عنها كثيرون، أن كل إنجاز عظيم، سبقته محاولات – بعضها فاشل، وبعضها غير مكتمل – لكنها جميعًا كانت الوقود الحقيقي لطريق النجاح. إننا نحتاج إلى إعادة النظر في موازيننا الاجتماعية، وأن نضع “المحاولة” في موضع الشرف، لا في هامش النسيان.

من يظن أن المجد يُنال دفعة واحدة، لا يفهم طبيعة الحياة. الوصول لأي هدف، يشبه صعود سلم شاهق، لا يمكن بلوغ قمته دون المرور بدرجاته الأولى. أحيانًا قد نتعثر، وقد نخطئ في تقدير الطريق، وربما نحتاج أن نعيد الحسابات ونختار مسارًا جديدًا، لكن جوهر الفكرة أن نبدأ، وأن نحاول، وأن نواصل، ولو بأقل الإمكانيات.

إن الله سبحانه وتعالى لا يُحاسب الناس على النتائج، بل على الجهد والنية الصادقة. يقول عز وجل:
﴿فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ﴾ [الأنبياء: 94]
أي أن الله لا يضيع سعي من يعمل الصالحات بإيمان، ولا يُهدر جهده، حتى لو لم تُثمر أعماله نتائج محسوسة في الدنيا. هذا تأكيد رباني على أن السعي نفسه محل التقدير الإلهي، وليس فقط النتائج النهائية. فالنية الصادقة والعمل الدؤوب لهما وزن كبير في ميزان الله، ولو بدا للناس أن المحاولة لم تُكلل بالنجاح.

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها، فليغرسها”، وهذا حديث عظيم يعلمنا أن قيمة الفعل تكمن في المحاولة الصادقة، لا في الثمار المنتظرة.

يقول الشاعر:
إذا كنت ذا رأيٍ فكن ذا عزيمةٍ … فإن فساد الرأي أن تترددا
التردد لا يصنع شيئًا، أما العزيمة والمحاولة، فهما بذرة التغيير.

في اليابان، حيث ثقافة العمل متجذّرة، هناك مفهوم يُعرف بـ “كايتزن”، وهو التحسين المستمر، ويقوم على فكرة أن التقدم يأتي من تراكم المحاولات الصغيرة، لا من وثبة واحدة. لا عجب أن اليابانيين يحتفون بالمثابرة، ويكافئون من ينهض بعد الفشل، أكثر ممن وصل في محاولته الأولى.

وفي عالم الرياضة، لم يكن “مايكل جوردن” أسطورة كرة السلة لينال المجد لولا محاولاته الكثيرة، وقد قال ذات مرة: “لقد أخطأت أكثر من 9000 مرة في مسيرتي. خسرت نحو 300 مباراة. لقد فشلت مرارًا وتكرارًا، ولهذا نجحت”.

أما في عالم الأعمال، فـ”توماس إديسون” جرب أكثر من ألف مرة لصنع المصباح الكهربائي، وحين قيل له: “لقد فشلت ألف مرة”، قال: “لم أفشل، لقد اكتشفت ألف طريقة لا تعمل”.

وفي قطاع الطاقة، وتحديدًا في عمليات استكشاف واستخراج البترول، فإن الحقيقة المعروفة عالميًا أن غالبية المحاولات لا تؤدي لاكتشاف ناجح من المرة الأولى. بل إن عدد الآبار التي يتم حفرها دون جدوى يتجاوز بكثير تلك التي تُنتج البترول فعليًا. لكن تلك المحاولات، رغم كلفتها، تُعدّ ضرورية ولا غنى عنها. وعندما تنجح محاولة واحدة، تكون النتيجة عظيمة، وتُغطي أحيانًا كلفة عشرات المحاولات الفاشلة. وهذا المثال لا ينطبق فقط على قطاع البترول، بل على كل مجالات الاستكشاف العلمي والتقني.

ولسنا بحاجة للذهاب بعيدًا عن أوطاننا بحثًا عن أمثلة ملهمة، فالسودان يزخر بتجارب عظيمة في تقديس المحاولة والإصرار عليها. تجربة البروفيسور عبد الله الطيب، الأديب واللغوي السوداني الفذ، مثال ساطع على ذلك. لم يكن طريقه مفروشًا بالورود، ولاقى الكثير من التحديات في سبيل نشر رسالته العلمية والثقافية، لكنه لم يستسلم. حاول أن يعيد للغة العربية هيبتها في بيئة كان فيها التعليم الأجنبي هو السائد، وجعل من جهده مشروعًا فكريًا طويل النفس، حتى صار أحد أعمدة الفكر العربي في القرن العشرين. لولا محاولاته الأولى التي لم تكن تلقى اهتمامًا كافيًا، لما خُلّد اسمه في ذاكرة الأدب والثقافة.

كذلك، فإن الكثير من رواد الأعمال الشباب في السودان اليوم يشقّون طريقهم وسط واقع اقتصادي شديد الوعورة، ويؤسسون مشاريع ناشئة رغم التحديات. بعضهم لم ينجح في البداية، لكنهم جرّبوا، وفشلوا، ثم حاولوا مرة أخرى. وهؤلاء هم من يشكلون ملامح المستقبل الحقيقي للبلاد.

النجاح ليس نقطة وصول، بل هو رحلة مليئة بالتحديات التي تصقل الشخصية وتصنع الوعي. كل محاولة تحمل درسًا، وكل عثرة تقرّبنا خطوة من الإجابة الصحيحة. لا يجب أن نخاف من السقوط، بل ينبغي أن نخشى من البقاء في موضع السقوط. فالقوة الحقيقية لا تكمن في عدم التعثر، بل في القدرة على النهوض، وأنت أكثر نضجًا، وأوسع فهمًا، وأشد عزيمة مما كنت عليه قبل السقوط.

إن المستقبل القادم هو مستقبل الابتكار، والابتكار لا يولد إلا في بيئة تحترم المحاولة وتدعمها، بغض النظر عن النتائج الأولية. فالإبداع يحتاج إلى فضاء يسمح بالتجريب، وبالخطأ، وبإعادة الكَرّة، دون تهكم أو تثبيط. دعم كل من يحاول اليوم، حتى لو أخفق، هو استثمار مباشر في المبدع الحقيقي الذي سيغيّر الواقع غدًا.

الخطر الأكبر على أي مجتمع، ليس في فشله، بل في خوف أفراده من الفشل. حين نصنع بيئة تحتقر المحاولة ولا تُكافئ إلا من يصل إلى النهاية الباهرة، فإننا نقتل روح المغامرة ونربي جيلًا مشلول الإرادة، متردد القرار، خائفًا من كل تجربة.

إن تكريم المحاولة لا يعني التغافل عن أهمية الإنجاز، بل هو اعتراف بأن الإنجاز نفسه ليس سوى نتيجة منطقية لمجموعة من المحاولات، بعضها لم يُكتب له الاكتمال. المجتمعات التي تريد مستقبلًا قويًا يجب أن تُشجع على التجريب، تحتضن الإخفاق النبيل، وتُعلّم أبناءها أن من حاول بصدق، وإن لم يصل، يستحق الاحترام والتقدير.

ولنصنع هذا التحول، نحتاج إلى تغيير عميق في ثقافتنا الأسرية والتعليمية والإعلامية. نحتاج إلى أن نقول للطفل الذي حاول أن يرسم، فأخطأ: “أحسنت المحاولة”، وللطالب الذي لم ينل الدرجة الكاملة: “خطوت خطوة في الطريق الصحيح، تابع”. وبهذا، نصنع جيلًا لا يخاف، ولا يتراجع، ولا يرضى بالركود.

لأن المجد لا يولد مكتملًا، بل يُولد من رحم المحاولة.

اترك رد

error: Content is protected !!