الرواية الأولى

نروي لتعرف

موطئ قلم / د. اسامة محمد عبدالرحيم

د. أنور قرقاش… فلنبدأ من عندك

عقيد بحري ركن (م) د. اسامة محمد عبدالرحيم

كتب الدكتور أنور محمد قرقاش مقاله المعنون «الإمارات والسودان: قراءة هادئة خارج ضجيج الحملات؟» بصحيفة الاتحاد بتاريخ 23 ديسمبر 2025م، داعيًا إلى مقاربة هادئة لما وصفه بـ«الضجة» المثارة حول موقف دولة الإمارات من حرب السودان وقضايا الإقليم. وإذ أُثمِّن هذه الدعوة من حيث المبدأ، وأقدّر طرحها خارج لغة الانفعال، فإنني أرى أن القراءة الهادئة الحقيقية تقتضي كذلك شجاعة المراجعة، وصدق الاعتراف، والإنصاف في توصيف الوقائع، لا الاكتفاء بإعادة إنتاج سردية أحادية تُبرئ الذات وتُحمِّل الآخرين كامل الأوزار.

ومن هذا المنطلق، قدّرتُ أن أقود حوارًا معك، دكتور أنور، بعيدًا عن السجال والانفعال، ومن خلال “فهم استراتيجي”، وفق ما طلبته أنت وتفضلت به.

تقول في مستهل مقالك إن ما تواجهه الإمارات هو «ضجة إعلامية غير مسبوقة». غير أن هذه «الضجة»، كما وصفتها، تستحق أكثر من هذا التخفيف اللفظي؛ فالأمر لا يتعلق بحملات عابرة أو اختلافات في الرأي، بل بدمار وخراب وأذى مادي ونفسي شامل طال بلادًا وشعوبًا وأرواحًا وممتلكات وحياة عامة، وعلى رأسها السودان. وهو دمار يعجز عنه الوصف و تلجم تجاهه الألسن، ولا يمكن تجاوزه لا من حيث الحق الخاص ولا الحقوق العامة، ولا تبريره باعتبارات النوايا أو الخطاب السياسي الناعم.

إن السبب الرئيس لتزايد الحملات الإعلامية ضد موقف الإمارات من حرب السودان وقضايا المنطقة لا يكمن في سوء الفهم أو الاستهداف، بل في “علة أساسية” هي تدخل الإمارات في الشؤون الداخلية لدول أخرى، تدخلًا مباشرًا أو غير مباشر. وهو أمر لا ترضاه دولة الإمارات على نفسها، ولا تقبله من أي طرف تجاهها، خاصة وهي دولة صغيرة جغرافيًا محدودة جيوسياسيًا، شديدة الحساسية لمسألة السيادة وعدم التدخل. والسؤال الجوهري هنا: كيف يُستنكر على الآخرين ما يُمارس فعليًا تجاههم؟.

أشرتَ إلى تحول السياسة الخارجية الإماراتية منذ عام 2018م، وهو توصيف صحيح من حيث التوقيت، لكنه يفتقد – في تقديري – إلى عنصر أساسي هو الحكمة السياسية. فهذا التحول، في كثير من محطاته، تجاوز حدود الكياسة السياسية، وذهب إلى محاولة فرض تصورات للحكم ومن يحكم وكيف يُحكم في دول أخرى، دون أن تُقدَّم التجربة الإماراتية كنموذج يُحتذى طوعًا، ودون مراعاة لحقوق الآخرين في تقرير مصيرهم.

كما أن هذا التحول الجيو-اقتصادي، والانفتاح الاستثماري الواسع الذي أشرت إليه، لم يُبنَ دائمًا على أسس المصالح المتبادلة (Win-Win)، بل اتسم – في حالات كثيرة – بالأنانية السياسية والاقتصادية، حيث تُنتزع الثروة والفرص من دول هشّة أو مأزومة، وفق شروط القوة لا عدالة الشراكة، وبما يخدم رؤية الإمارات وحدها دون غيرها.

قلتَ إن انقلاب 2021م كان «جرس إنذار مبكرًا تجاهله المجتمع الدولي». وهنا أصل إلى جوهر نقدي لمقالك. فما حدث في السودان، في المقام الأول، شأن داخلي سوداني، يجب أن يعمل على حله السودانيون أنفسهم. فلا أنت، ولا دولة الإمارات، ترضون أو تسمحون لأي سوداني أن يتدخل أو يحدد شكل الحكم في الإمارات أو نهجه أو قادته، باعتباره شأنًا إماراتيًا بحتًا. ثم إن توصيف ما جرى في السودان لا يمكن اختزاله في «انقلاب» بمعناه المبسط، بل كان نتاج سلسلة أخطاء وتقديرات سياسية خاطئة اشترك فيها المكون العسكري والمكون المدني على السواء، في لحظة انتقالية معقدة.

أما حديثك عن “أدلجة المؤسسة العسكرية السودانية” أو “نشأة قوى مسلحة من رحمها”، فهو شأن يجب أن يُنظر فيه سودانيًا أولًا وأخيرًا(لانه يخصهم وحدهم فيما يرتضونه من شكل و طبيعة لمؤسسات دولتهم). فهذه اعتبارات تفرضها ظروف الزمان والمكان، وتحكمها تقديرات القيادة السياسية والعسكرية الوطنية، ولا يحق للآخرين التدخل فيها ما دامت لا تستهدفهم ولا تؤذيهم.

كما ألحظ دائمًا، في تصريحات وكتابات من يحاربون الشعب السوداني مباشرة او عبر وكيل وكذلك من يدّعون الحياد ناهيك عمّن تفضحهم لحن قولهم، ألحظ فوبيا مزمنة من «الإخوان المسلمين». والحقيقة أن «الإخوان المسلمين» لا يمثلون وزنًا حقيقيًا في السودان اليوم، وحتى الحركة الإسلامية كتيار، إن وُجد لها جرم أو خطأ، فهي حركة سودانية يفترض ان تُحاسَب سودانيًا، طالما لم تتدخل في شؤون الآخرين.

نعم، يظل السؤال المستغرب قائمًا: لماذا هذا الاهتمام والتدخل الإماراتي في السودان، تحت ذريعة الاهتمام بترابط أمن المنطقة؟ إذ لا يوجد دليل واحد على أن السودان سعى يومًا لزعزعة أمن الإقليم، بينما تبدو أدوار الإمارات في المنطقة واضحة للعيان ولا تحتاج إلى كثير بيان.

أما قولك إن اعتبار الجيش السوداني وقوات الدعم السريع طرفين في نزاع مسلح قراءة واقعية، فهو قول عجيب في تقديري. فالدعم السريع مليشيا متمردة خرجت على الدولة. ولو حدث مثل ما فعلته هذه المليشيا في الإمارات، لما ساندها أحد، ولما وُصفت طرفًا مكافئًا للدولة، مالكم كيف تحكمون؟.

الدولة هي مجلس رئاستها، ومجلس وزرائها، ومؤسساتها النظامية والمدنية، وهيئاتها العدلية والتشريعية و من وراء كل ذلك شعبها. ولو كان الدعم السريع يمثل الدولة أو يُعترف به، لما لجأ – بإيعاز من داعميه – إلى وهم تشكيل حكومة موازية لا تقوم إلا في أرض السراب و في مخيلة الفاعلين الأساسيين. وكان حريًا بكم دعم الدولة ومؤسساتها و اسناد شعبها، قصدًا للأمن والاستقرار والسلام والتنمية.

إن نظام الإنقاذ قد ذهب بخيره وشره، وكنتم كدولة تتعاملون معه حتى وإن كان لكم رأي فيه. فما الجديد اليوم؟ أليس ما يجري هو إعادة رسم للنفوذ الإقليمي و الدولي وفق قواعد جديدة خاصة منطقة البحر الأحمر و القرن الافريقي؟ فلنكن صرحاء وواضحين.

نشكر دعمكم لمنابر السلام في جدة وجنيف والمنامة والرباعية و غيرها، ونؤيد كل جهود السلام و مبادراته، لكننا نريدها جهود ومبادرات ومفاوضات سلامٍ بصدق وحياد وعدل. فمبادرة الرباعية، بكل تفاصيلها، مقبولة لأي كائن يؤمن بالسلام، لكنها تظل مقيدة و مشروطة بشرط واضح: ألا تؤدي إلى إعادة إنتاج مليشيا الدعم السريع في المشهد العسكري أو السياسي. إن السلام الذي لا يُنهي وجود المليشيا فورًا، ودون تكتيكات و مناورات، يحمل بذرة استمرار الحرب في جوفه. فهذه المليشيا لم تعد تستحق البقاء في حياة السودانيين بما اقترفته من جرائم. نعم، هي صناعة نظام الإنقاذ الذي انتقدته، لكنك – paradoxically – كرهت كل أفعال “نظام الانقاذ”، وارتضيت صنعه الملعون”مليشيا الدعم السريع” الذي يحارب الدولة والشعب، كفعل انتقائي يخدم غرضك.

وأختم بالإشارة إلى خاتمة مقالك، وأرحب بالحوار البناء الذي تدعو إليه، للوصول إلى الغايات التي تزعم أنك تطلبها، وعلى رأسها وقف الحرب. لكن هذا الحوار و “وقف الحرب” يبدأ من عندك: بوقف الدعم للمليشيا فورًا وقطع صلتكم بها، وبوقف استخدام أراضيكم كمنصات إعلامية وسياسية للمتمردين على الدولة و المحاربين لشعبها، وبوقف الاستشفاء والدعم المالي واللوجستي، وبوقف استخدام المطارات والتحالفات الإقليمية والدولية لخدمتهم. فلنبدأ حوارًا من هنا، مباشرًا وصادقًا ومسؤولًا. عندها فقط، يمكن للقراءة الهادئة أن تكون مدخلًا حقيقيًا للسلام، لا مجرد عنوان جميل لمقال رأي.

الجمعة 26 ديسمبر 2025م

اترك رد

error: Content is protected !!