موانئ السودان بالبحر الأحمر – دوائر الصراع و التنافس الإقليمي و الدولي (2)

عقيد بحري ركن (م) د. اسامة محمد عبدالرحيم
دكتوراه في الدراسات الاستراتيجية (أمن البحر الأحمر)
_________
إذا كان البحر الأحمر قد ارتبط في الوعي الجيوسياسي العالمي كأحد أهم الممرات البحرية، فإن السودان يملك واحدة من أطول الواجهات على ساحله الغربي، وهو ما يجعله مؤهلًا ليكون لاعبًا محوريًا في حركة التجارة والنفط والموارد. غير أن الواقع الميداني والعملي يكشف عن صورة مغايرة؛ فالموانئ السودانية، وعلى رأسها بورتسودان وسواكن وبشائر، بقيت محدودة التطور، مع اعتماد شبه كامل على ميناء واحد رئيسي، بينما تحولت موانئ الجوار إلى مراكز لوجستية متقدمة تستقطب الاستثمارات الإقليمية والدولية.
ومن هنا تبرز أهمية النظر بعمق في واقع الموانئ السودانية القائمة، والمشاريع المقترحة، ومقارنتها بموانئ الإقليم، للوقوف على حجم الفجوة التنموية والتنافسية التي جعلت السودان الحلقة الأضعف في معادلة البحر الأحمر.
الموانئ الفاعلة والنشطة في السودان
1) ميناء بورتسودان:
يُعد الميناء الأهم في السودان، حيث يستوعب أكثر من 90% من إجمالي الصادرات والواردات السودانية، وهو المنفذ البحري الرئيسي للبلاد. يضم عدة أرصفة مخصصة للحاويات، البضائع العامة، والصادر الزراعي والحيواني. ورغم أهميته، إلا أن بنيته التحتية تعاني من تقادم المعدات، وضعف التوسعة، والاعتماد شبه الكامل عليه يضع الاقتصاد السوداني تحت رحمة أي اضطراب في تشغيله.
2) ميناء الأمير عثمان دقنة (سواكن):
يُستخدم أساسًا لنقل الركاب، خاصة الحجاج والمعتمرين إلى السعودية، إضافة إلى حركة محدودة للبضائع. ورغم موقعه التاريخي، إلا أن الميناء يفتقر إلى التحديث الشامل. وقد طُرحت مشاريع تركية وقطرية لتطويره وتحويله إلى ميناء إقليمي حديث، لكن هذه المشاريع لم تكتمل.
3) ميناء بشائر (النفطي):
أنشئ خصيصًا لتصدير النفط السوداني عبر خط أنابيب من حقول الإنتاج حتى ساحل البحر الأحمر. لعب دورًا محوريًا قبل انفصال جنوب السودان حيث كانت معظم صادرات النفط تمر عبره. وبعد الانفصال، انخفضت أهميته نسبيًا لكنه يظل ميناءً استراتيجيًا.
الموانئ المقترحة في السودان
1) ميناء أوسيف:
ميناء متخصص و مقترح لتصدير خام الحديد والمعادن بشكل عام. لا يزال طاقته محدودة او في طور التخطيط و غير مفعل، لكنه يمثل حلاً ومنفذًا مستقبلياً مهمًا لصادرات التعدين التي يمكن أن تشكل رافعة للاقتصاد السوداني في المستقبل إذا ما تم تطويره.
2) ميناء أبو عمامة:
مشروع ضخم كان مطروحًا للتنفيذ بدعم إماراتي، يُفترض أن يكون ميناء لوجستي حديثًا منافسًا لبورتسودان. لكن المشروع لم يرَ النور بسبب تعقيدات سياسية مرتبطة بأطماع الإمارات في السيطرة على الموانئ السودانية ضمن مشروعها للهيمنة على البحر الأحمر و من ناحية الاتهامات التي طالت الامارات بضلوعها في إسناد و دعم قوات الدعم السريع المتمردة على جيش بلادها.
3) ميناء عقيق:
موقع مقترح لميناء متعدد الأغراض يمكن أن يخدم التجارة الإقليمية والدولية، لكنه لم يتجاوز مرحلة الدراسات الأولية.
4) مشروعات تحديث سواكن:
كان من المخطط تطوير الميناء بإتفاق تركي أو قطري وربطه بخطوط الملاحة التركية او الخليجية أو كلاهما، بحيث يصبح مركزًا للتجارة وإعادة التصدير، لكن المشروع توقف بسبب التحولات السياسية في السودان وتعارضه مع مصالح قوى أخرى في البحر الأحمر.
المقارنة مع موانئ الجيران
السعودية:
تمتلك شبكة متكاملة من الموانئ الحديثة والمتطورة. كل هذه الموانئ مدعومة بشبكات برية وسككية متطورة، ما يجعلها أكثر كفاءة مقارنة بالموانئ السودانية، أبرز هذه الموانيء:
1)ميناء جدة الإسلامي :
الذي يُعد الأكبر على البحر الأحمر، بطاقة استيعابية تتجاوز 130 مليون طن سنويًا.
يُعتبر الميناء الأضخم على البحر الأحمر.
يستحوذ على نحو 65% من واردات السعودية.
يشمل أرصفة للحاويات، والبضائع العامة، والركاب.
يعد بوابة رئيسية للحجاج والمعتمرين عبر البحر.
2) ميناء الملك عبدالله (مدينة الملك عبدالله الاقتصادية – رابغ):
ميناء حديث ومتطور يعمل وفق أنظمة ذكية.
يُعتبر أول ميناء سعودي مملوك للقطاع الخاص.
يركز على الحاويات والبضائع العامة، ويهدف ليكون من أكبر 10 موانئ في العالم.
3) ميناء ينبع الصناعي (ينبع الملك فهد الصناعي):
متخصص في الصناعات النفطية
والبتروكيميائيةمخصص للبضائع العامة والحاويات.
يخدم مدينة ينبع الصناعية ومجمعاتها البتروكيماوية.
يختص بتصدير النفط ومشتقاته، إضافة للصناعات الثقيلة.
4) ميناء ينبع التجاري:
يخدم منطقة المدينة المنورة والمناطق المجاورة.
مخصص للبضائع العامة والحاويات.
قريب من ميناء ينبع الصناعي.
5) ميناء ضبا:
ميناء متوسط الحجم شمال غرب المملكة.
يخدم حركة الركاب والبضائع مع مصر والأردن والسودان.
محطة مهمة للعبّارات.
6) ميناء الوجه:
ميناء صغير يخدم الصيادين والتجارة المحلية.
7) ميناء أملج:
ميناء تاريخي صغير يخدم النقل الساحلي والصيد.
8) ميناء جازان:
يخدم جنوب المملكة (منطقة جازان).
مخصص للبضائع العامة والركاب.
قريب من المشاريع الاقتصادية الجديدة (مدينة جازان للصناعات الأساسية والتحويلية).
اليمن:
رغم امتلاكها موانئ استراتيجية مثل الحديدة والمخا وعدن، إلا أن الحرب الدائرة منذ 2015م شلّت معظمها، وحولتها إلى ساحات صراع بين القوى الإقليمية. ومع ذلك، تظل ذات أهمية قصوى لقربها من مضيق باب المندب.
مصر:
استفادت من موقع قناة السويس لتطوير موانئها على البحر الأحمر مثل السويس وسفاجا والغردقة. وقد ربطت هذه الموانئ بمشروعات لوجستية وصناعية ضخمة في إطار مشروع “المنطقة الاقتصادية لقناة السويس”، ما جعلها موانئ منافسة إقليميًا.
جيبوتي:
تحولت إلى قاعدة استراتيجية دولية بفعل استثمارات ضخمة من الصين (ميناء دوراليه) والولايات المتحدة وفرنسا. تستوعب هذه الموانئ تجارة إثيوبيا بالكامل تقريبًا، ما جعل جيبوتي مركزًا لوجستيًا عالميًا رغم صغر مساحتها.
إريتريا:
تمتلك موانئ محدودة مثل عصب ومصوع، لكنها تستغل موقعها العسكري القريب من باب المندب لاستضافة قواعد وتحالفات عسكرية، ما يمنحها أهمية تتجاوز حجمها الاقتصادي.
إسرائيل والأردن:
ميناء إيلات يمثل نافذة إسرائيل البحرية نحو آسيا وإفريقيا عبر البحر الأحمر، بينما يمثل العقبة الميناء الوحيد للأردن على البحر الأحمر، ويُستخدم بشكل أساسي للتجارة البينية الإقليمية.
من هذا العرض، يتضح أن الموانئ السودانية رغم موقعها الجغرافي الفريد، ظلت الأقل تطورًا مقارنة بجيرانها، حيث تعتمد على بورتسودان بشكل شبه كامل، بينما استثمرت الدول الأخرى في تحديث بنيتها التحتية وربطها بمشروعات اقتصادية ضخمة، ما جعلها أكثر جاذبية للمستثمرين وأكثر تأثيرًا في معادلات البحر الأحمر.
قصور وضعف البنية التحتية للموانئ السودانية
رغم الموقع الجغرافي المميز للسودان على البحر الأحمر، إلا أن موانئه ظلت تعاني من ضعف هيكلي مزمن في بنيتها التحتية والتشغيلية، وهو ما جعلها أقل قدرة على المنافسة مقارنة بموانئ الجوار. ويمكن تلخيص مظاهر هذا القصور في النقاط التالية:
1) الاعتماد على معدات قديمة وتقنيات تقليدية:
معظم مرافق ميناء بورتسودان تعتمد على أوناش ورافعات قديمة، ولا تمتلك منظومات متطورة لمناولة الحاويات. الأمر الذي ينعكس في انخفاض الكفاءة التشغيلية، حيث أن متوسط زمن مناولة وتفريغ او شحن سفن الحاويات في ميناء و محطة الحاويات ببورتسودان دون المعدلات القياسية العالمية المعتمدة، بينما هي ضمن المعدلات القياسية بالموانئ الحديثة كجدة أو دوراليه .
2) ضعف الربط السككي والطرقي مع عمق السودان (Hinterland):
يفتقر السودان إلى شبكة نقل متكاملة تصل الموانئ بالمناطق الإنتاجية (المعدنية والزراعية) أو بدول الجوار غير الساحلية. خط السكة الحديدية القديم الذي كان يصل الخرطوم ببورتسودان لم يتم تحديثه منذ عقود، مما يرفع تكاليف النقل ويضعف القدرة التنافسية للصادرات السودانية.
3) غياب المناطق اللوجستية الحديثة:
الموانئ السودانية تفتقر إلى مناطق حرة ومراكز إعادة تصدير وتخزين مبرد حديثة، على عكس موانئ الجوار التي طورت مناطق لوجستية متكاملة تخدم حركة التجارة العابرة للإقليم. وهذا يحرم السودان من فرص التحول إلى مركز ترانزيت إقليمي يربط إفريقيا بالعالم.
4) الاعتماد المفرط على بورتسودان كميناء وحيد رئيسي:
في ظل محدودية تطوير سواكن وأوسيف وبشائر، بقيت معظم حركة التجارة السودانية مركزة في بورتسودان. هذا الاعتماد الأحادي يمثل مخاطرة كبيرة؛ إذ أن أي اضطراب أمني أو سياسي أو فني في بورتسودان يعني شلل الاقتصاد السوداني بأكمله.
الأسباب الجوهرية لهذا القصور
1) الصراعات السياسية المتكررة:
شهد السودان خلال العقود الماضية حروبًا أهلية متطاولة، وانقلابات سياسية متكررة، جعلت الاستقرار المطلوب لجذب الاستثمارات في الموانئ أمرًا شبه مستحيل.
2) الحصار والعقوبات الدولية:
فرضت العقوبات الأمريكية والدولية على السودان (خاصة بين الأعوام 1997م و2017م) عزلة اقتصادية خانقة، منعت وصول التقنيات الحديثة والاستثمارات الأجنبية في قطاع الموانئ، وجعلت تطويرها يتم بإمكانات محدودة.
3) ضعف الاستثمار الحكومي والخاص:
الحكومات المتعاقبة ركزت على تسيير الأعمال اليومية أكثر من وضع خطط تنموية استراتيجية. كما أن القطاع الخاص المحلي ظل محدود القدرات، وغير قادر على تنفيذ استثمارات ضخمة في البنية التحتية المينائية.
4) غياب الشراكات الاستراتيجية طويلة الأمد:
في حين نجحت دول مثل جيبوتي في جذب استثمارات صينية ضخمة، ودول مثل السعودية ومصر في بناء شراكات مع شركات تشغيل موانئ عالمية، ظل السودان يعتمد على إدارة محلية تقليدية للموانئ، بلا انفتاح حقيقي على استثمارات نوعية أو اتفاقيات شراكة استراتيجية مستدامة
أن الموانئ السودانية، رغم موقعها الفريد على البحر الأحمر، عانت من قصور هيكلي في بنيتها التحتية، ومن اعتماد شبه كامل على بورتسودان كميناء رئيسي، في وقت استثمر فيه الجوار في تحديث وتطوير موانئه وربطها بمشروعات لوجستية واقتصادية كبرى. وقد تراكمت أسباب هذا الضعف بين صراعات سياسية متواصلة، وعقوبات دولية خانقة، وإهمال استراتيجي حال دون تحويل هذه الموانئ إلى مراكز إقليمية فاعلة.
لكن ضعف الموانئ لا يعني انتفاء قيمتها؛ بل على العكس، جعلها أكثر عرضة للأطماع، إذ ينظر إليها الفاعلون الدوليون والإقليميون باعتبارها فرصة سانحة للاستحواذ والهيمنة بأقل تكلفة ممكنة. وهكذا تحوّلت الموانئ السودانية إلى ساحة تنافس محتدم بين مشاريع النفوذ، تتقاطع فيها مصالح قوى إقليمية طامعة (مثل الإمارات، السعودية، تركيا وقطر)، مع حسابات القوى الكبرى (الولايات المتحدة، الصين، روسيا) التي ترى في البحر الأحمر بوابة حيوية للتجارة العالمية والأمن البحري.
إن السودان، رغم امتلاكه موقعًا بحريًا استراتيجيًا لا مثيل له في الإقليم، أخفق في تحويل موانئه إلى مراكز قوة اقتصادية وجيوسياسية، وظلت بنيته المينائية أسيرة الضعف والقصور و التقادم، وتوزيعه المينائي ضعيفًا، واعتماده شبه الكامل على بورتسودان وضع اقتصاده تحت رحمة أي اضطراب داخلي أو خارجي في وقت تسابق فيه جيرانه على التحديث والاستثمار والتحالفات. وفي حين اندفعت دول الجوار لتطوير موانئها وربطها بمشروعات لوجستية ضخمة واستثمارات دولية، بقي السودان الحلقة الأضعف، محرومًا من فرص التنمية، وواقعًا في دائرة التهميش.
هذا التأخر البنيوي لم يحرم السودان فقط من فرص التنمية، بل جعله عرضة للأطماع الخارجية، حيث رأت القوى الإقليمية والدولية في موانئه فراغًا استراتيجيًا قابلاً للاستغلال. وهكذا تحولت الموانئ من مجرد مرافق اقتصادية إلى أوراق ضغط وصراع، بل وإلى أحد محركات الحرب السودانية الراهنة.
في الجزء الثالث والأخير سنتناول بصورة مباشرة خريطة الأطماع والتنافس الدولي والإقليمي حول الموانئ السودانية، وكيف انعكس ذلك على الحرب الجارية، بحيث لم تعد مجرد حرب داخلية، وإنما ساحة اختبار لمشاريع الهيمنة وصراع الإرادات. كما سنتطرق إلى قرارات الإمارات الأخيرة الخاصة بحركة التجارة و الملاحة البحرية بين موانيء الامارات و السودان وتأثيرها الاقتصادي و السياسي، و البدائل الممكنة امام السودان لمواجهة هذا الضغط و التصعيد، إضافة الي الفرص المتاحة و الرؤية المستقبلية لبناء موانئ حديثة، محصنة ضد التجاذبات، تتحول من أهداف مستباحة للأطماع إلى ركائز حقيقية للسيادة والتنمية.
الثلاثاء 30 سبتمبر 2025م