الرواية الأولى

نروي لتعرف

الرأي

دموع مستور :بشارات الفجر الجديد ..


منذ أن سقطت مدينة الفاشر مدينتي الثانية ومهد صباي ومعهدي والحزن يخيم على قلبي من فظاعة ما كنا نخشاه من مجازر (القبيل كنا ما دايرنو يحصل داس مشاعرنا وحصل )،مُذُّ ذاك الفجر الذي لم تشرق شمس الفاشر من بعده وأنا أتمثل قول الشاعر نزار قباني في زيارته للخرطوم إبان هزيمة النكسة في العام 1967م حيث ألقى قصيدته (هوامش على دفتر النكسة ) أتمثل قوله فيها :
مالحةٌ في فمنا القصائد ..
مالحة ضفائر النساء..
والليلُ والأستار والمقاعد..
مالحةٌ أمامنا الأشياء يا وطني الحزين ..
حولْتني بلحظةٍ من شاعر يكتب الحب والحنين
لشاعر يكتب بالسّكين …
حتى إذا ما زرنا الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون في مقرها بأمدرمان ؛ونظرنا في التخريب المتعمد والتدمير الممنهج ؛ووجدنا (دنيا من الأمل العريض تحطمت بمعولٍ) ،واجتزنا الجراحات إلى ضفة التحدي حيث يعمل الزملاء في مكتب تلفزيون السودان بولاية الخرطوم من بين الركام والحطام الذي حول هذه المؤسسة العملاقة إلى أطلال ،يعملون من إستديو واحد شبه خالٍ ودون المعدات التقنية والتجهيزات الفنية والجمالية المطلوبة ؛لحق بنا الأستاذ الطيب سعد الدين المدير العام لوزارة الثقافة والاعلام بولاية الخرطوم داخل الأستديو على عجل ليقدم شهادةً في حق الزملاء الذين عملوا في مكتب الخرطوم في ظروف الحرب وتعقيداتها .
كانت الكلمات تصف المعاناة حيث لا يوجد استديو ليطل منه تلفزيون السودان على الهواء مباشرةً قبل تحرير ولاية الخرطوم ، فكان اللجوء إلى منزل مواطن على هيئة هيكل خرصاني غير مكتمل مطل على شارع الوادي لتكون من على سطحه الإطلالة لينقلوا للعالم نبض الحياة الذي بدأ يدب في شرايين مدينة الثورة ومحلية كرري وكأنها غادرت الحرب رغم قرب العدو الجغرافي واستهدافها بالتدوين من حين لآخر.
مضت لحظاتٌ اختنقت فيها الألسن بالعبرات ،وجادت المقل بالدمع السخين وعلا النشيج ،تعطلت لغة الكلام وأخذت بخطام التعبير المشاعر فاهتزت خلجات القلوب ،ما أصدقَ التعبيرَ عند صمت الكلمات وإبانة المآقي وقسمات الوجوه .
يقول الأستاذ الطيب (( في غضون شهر من بداية المعركة جاءنا الأخ مستور آدم إسماعيل مبلِّغاً بنفسه بأنه على استعداد للعمل على إيصال صورة الولاية ولم يكن لدينا وقتها شيء، لم تكن هناك مرتبات ولا معدات للعمل بل أحياناً لا نجد ما نسد به رمقنا ونحن في مواقع العمل ،فأحضروا كاميرا خاصة يمتلكها أحد زملائهم والحرب على أشُدٍّها ومجرد التحرك كان عصياً)).
يشكر الأخ مستور للأستاذ الطيب تلك الكلمات وأنا ألحظه وهو يقاوم تقاطر الدموع على ناظريه لهذا التقدير الذي عايشه في لحظات الوفاء، يكفكف دموعه ويقدم الأستاذ محمد الفاتح أحمد رئيس الاتحاد العام للصحفيين السودانيين بالإنابة الذي يرأس الوفد الصحفي الكبير الذي قدِم إلى ولاية الخرطوم بدعوة من لجنة تهيئة بيئة الولاية لعودة المواطنين التي يرأسها الفريق الركن بحري مهندس إبراهيم جابر ليقف على واقع العمل في إصلاح ما خربته المليشيا، أخذ الأستاذ محمد الفاتح يتحدث بصعوبة وأنا أقف إلى جواره بزاوية تجعلني أرى ما بين عينيه والنظّارة ،أراه وهو يحاول مداراة الدموع بعدساتها ،لكن الذؤابات تتكشف والعبرة تفضحه وهو يترحم على الزملاء الذين استشهدوا في معركة الكرامة من منسوبي تلفزيون السودان.
يقدم المخرج القدير الأستاذ معاذ موسى والأستاذ العزيز الصديق علي المبارك مدير الأخبار بمكتب الخرطوم والمهندس محمد إبراهيم شروحات حول الحلول والتدابير التي تمكنوا بها من تشغيل أستوديو الأخبار والذي كنا نروده لسنوات خلت ضيوفاً على برنامج خطوط عريضة الذي يُبث منه ،فما وجدنا فيه من وصفه الذي كنا نعرفه غير المكان.
كانت تلوح لي عبر إنكسارت الضوء في تلك الدموع في لحظات الإحساس النبيل هذه صورة الزميل الأستاذ المخرج فاروق الزاهر فارع القامة عالي الهامة وهو يتحدث في تواضع وأدب جم يداري به علمه وخبرته وهو يمضي إلى الله شهيداً في تغطية تحرير القصر الجمهوري في مفتتح أسبوع تحرير مدينة الخرطوم إلى جانب زملائه المصور مجدي عبد الرحمن والسائق أونور في مارس 2025م.
نرى في إخلاص وتضحية واستبسال مستور وزملائه الذين أطلوا من أمدرمان في الأيام الأولى المذيعة منى موسى والمصور إدريس جودة والمخرج محمود عبد الله ومن لحق بهم من زملائهم الذين إن جهلناهم أو نسيناهم فإن الله لا ينساهم والتاريخ سيخلدهم ،نراهم وكأنّ كل واحد منهم ينازع الشاعر عبد المنعم عبد الحي في كلماته عن أمدرمان التي تغنى بها عميد الفن أحمد المصطفى :
وأنا أهتف والورى يعرف حسي ..
فيا سودانُ إذْ ما النفسُ هانتْ..
أُقَدِّمُ للفداء روحي بنفسي..
وأراهم يمثلون قول شاعر حنتوب الأستاذ الهادي آدم:
هُم دروع البلاد إن مسها الرّوع ..
وأشبال غيلها الزائرونا ..
المحامون دونها المستثارون لها
الذائدون عنها الخؤونا ..
إن دعوا للنضال خِلتَ شياطين
توالوا من عبقر يهرعونا..
أو دعوا للنضال خِلْتَ أسوداً
غاضباتٍ يحمين منها العرينا..

حاشية:

إلى لجنة تهيئة بيئة ولاية الخرطوم لعودة المواطنين برئاسة الفريق إبراهيم جابر نرسم لوحة التضحية والوفاء هذه لتبادلها اللجنة بمثلها تأهيلاً للقلعة التي وحدت الوجدان وبنت الهوية الوطنية الجامعة للشعب السوداني وحوت ذاكرة الأمة السمعية والبصرية ،فالإعلام أحد أهم جبهات قتال أعداء السودان الكثر ،ويجب أن ينال نصيبه من العدة والعديد .نشكر للجنة جهدها في إيصال التيار الكهربائي إلى مبني الهيئة ونرجو منها المزيد حتى يعود لإذاعة أمدرمان وتلفزيون السودان الألق مثلما عادت الرسالة من هذا المكان.
إن دموع الأستاذ مستور اليوم ترسم لنا أملاً جديداً وتزف البشرى بأن إعلاماً يقاتل بمثل هذا الاستبسال لن يُهْزم جيش بلاده ؛وأنَّ شعباً هذا ديدن شبابه لن يُقْهر أو يُرَكَّع لأطماع المعتدين .

اترك رد

error: Content is protected !!