فضل الله رابح
كنت أتحدث ذات يوم الي الرجل النبيل ( وجدي ميرغني ) توهمت أنني أحكي إليه قصص يسمعها لأول مرة عن مأساة الخرطوم بعد الحرب الاخيرة ولياليها الحالكة ، وبعدما ختمت كلامي وتطوافي في الهواجس والذكريات المستبدة بدماغي وأزحت عني شواغلها وحكاوي الوشاة أستخبرته عن احوالهم وأوضاع التجار ورجال الاعمال وسائر أوضاع الإقتصاد والمال ، كان حديثي قد انعش ذاكرة ( وجدي ميرغني) فذكرني بإطمئنان عن أفعال النزق الطائش وكيف أن كل مملكاتهم لم تكن محصنة وأن مئات الآلات الزراعية تخص مشاريعه الزراعية بإقليم دارفور ضمن مؤسساته الاقتصادية لحق بها الدمار والخراب والسرقة ، واصل الرجل حديثه وهو يحكي تأدبا مع أقدار الله فقال : ( انت عارف يا رابح هذه الحرب علي قسوتها ربما لخير يعلمه الله ويدخره لاهل السودان ) ، فأخذت بما نصح به ( وجدي ) وأدعت هواجسي وحالي عند القيم الايمانية وقد أستشعرت أضواء قناديل المستقبل وثريات إشراقات الغد والفقراء المتصوفة يبتهلون بخلاوي كردفان الفسيحة والاغنياء وكبار السن والفقراء والعديد من النساء والعجائز يملئون المكان بالقين والسماحة والرضي رغم أن الصخب ما زال يعربد في كل مكان بالخرطوم وضعف حالهم وقلة حيلتهم .. والخميس الماضي كنت قد لبيت دعوة غداء لرجل الاعمال جهير السيرة والمسيرة ( هشام السوباط ) رئيس جمهورية الهلال وهشام رجل كريم ياتيك هاشا باشا وأكثر ما استوقفتني من كلمات في تلك الدعوة الفخيمة ما قاله استاذنا حسين خوجلي الذي قال : ( لو كان القرآن ما زال يتنزل لذكرت الخرطوم كما ذكرت عاد وثمود لكن الوحي قد إقنطع وتوقف ) ، واظن ان حسين وهو يتحدث بذلك التداعي العجيب يتذكر منازل العز التي دمرت والبنايات والجدران التي هدمت والذين قضوا نحبهم في غمرة تلك الجائحة البشرية المؤلمة رحمهم الله .. وفي تلك العصرية بمزرعة السوباط الفسيحة لقد ألمتني دموعي الوراق الصحفي الكبير ( محمد محمد خير) الذي أجهش بالبكاء معذبا لم يستطيع أن يغالب حزنه ويتحدث بحرية وهو يسرد مذعورا سيرة وقصص هذه الحرب ورواية الشباب الذين استشهدوا علي راسهم الشهيد محمد الفضل وهو أول شهيد في معركة الكرامة ، محمد محمد خير وهو يتذكر مرت عليه أطياف من ذكري ود الفضل وهو لم يعرفه من قبل لكن سبق ان كان ضمن الذين زاروه وهو في فراش المرض رفقة آخرين وكان الخبر الفاجعة بالنسبة له أنه إستشهد ، انني شخصيا ما كنت اعرف شئ عن عويل الرجال إلا في تلك اللحظة والعبرة تخنق حلق استاذنا محمد محمد خير وينفجر بالبكاء المر حتي أبكانا معه ، ما أقسي أن تري أطياف الأحباء الذين رحلوا في هذه الحرب اللعينة ، حرب لم تترك فسحة لتعزيتنا فتقوصنا في زوايا واركان الدنيا كالعاجزين نواسي بعضنا حياء بل نعتذر للحياء لأننا لم نستطيع القيام بشئ لضعف المرحلة وقلة الحيلة ، بتنا مع واقعة الحرب المزلزلة لم ندر ما يقصده من قص علينا حكايته مع الحرب ويكاد الواحد منا يشرد عنه بذهنه إلي شجون مأسأته الخاصة ، لو لا ان شخصيات امثال ( الشريف ) حسين خوجلي ورجل الاعمال المهذب وجدي ميرغني يرسلون علينا غلال من الصبر تواسينا في حسرة محاصرة الخرطوم وتجعلنا نترك ما بأيدينا ونسرع بالعودة الي الخرطوم المفقودة ملهوفين ، جميعنا ينتظر إنكشاف الغمة آمل من الله ان لا يطول إنتظارنا فالايام تمر علينا قاسية مريرة ، والحمد لله بدأ الأمل يلوح من بعيد عندما إنتشرت الاخبار بأن المحاصرين للخرطوم التي جعلوها غنيمة واضمروا لها الغدر وأخرجوا منها اهلها قد هزموا بعدما قتلوا العزل وكانوا يسبون النساء وقد شارفت ابواب المدينة ان تفتح ليندفع الجميع داخلها بحبهم القديم المتجدد ، سيعود زحام الخرطوم وحركة المئات من الناس وأضواء القناديل وثريات الجامع وستحتفي الباحات بصوتها الوجداني وبأريحية ومرح ، سيختفي الصخب السالب وصوت الزخيرة وأزيز المدافع سيعود دخان المباخر الصاعد من المصانع من جديد ، وسيظل تاريخ 15 ابريل لحظة تاريخية فارقة للسودانيين وستبقي ذكراها عالقة بذهن كل سوداني طيلة المائة عام القادمة وربما تزيد ..