
بينما كان إقليم دارفور ولا يزال يحتفظ بثرائه الإنساني والتاريخي وتنوعه القبلي الذي يشكّل عمادًا للهوية السودانية، تحول الاقليم و اجزاء واسعة من البلاد و منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023م إلى مسرح كبير و ممتد لصراع دموي دفع فاتورته الأعلى أبناء قبائل غرب السودان أنفسهم و من مختلف اصولهم، و الذين لا يزالون يتسربون عبر بوابات الموت نزيفاً متواصلاً من الأنفس و الدماء ، خاصة القبائل العربية في اقليم دارفور ، الذين جُرّوا بوسائل التضليل والدعاية الزائفة و تحت راية المليشيا المتمردة إلى معركة خاسرة ضد وطنهم وجيشهم وشعبهم، لتكون النتيجة محرقة قبلية وإثنية غير مسبوقة في التاريخ الحديث للسودان للمنطقة بأسرها.
قاد محمد حمدان دقلو (حميدتي) قائد مليشيا الدعم السريع، ومعه اخوته عبدالرحيم دقلو و القوني و آلهم ، آلاف الشباب من قبائل غرب السودان، خاصة القبائل العربية الدارفورية، نحو أتون حرب مدمرة . ومن بين هذه القبائل التي زُج بأبنائها في خطوط المواجهة، قبيلة الرزيقات بمختلف بطونها (المحاميد، الماهرية، العريقات)، المسيرية، المعاليا،بني حسين و بني هلبة،الهبانية و الحوازمة، الفلاتة، التعايشة، هبانية، القمر، و الزيادية وغيرهم من المجموعات العربية المنتشرة في غرب السودان. كل هذه القبائل فقدت بفعل آلة الجيش القتالية و في مواقع عدة من البلاد و في معارك كثيرة عشرات الآلاف ان لم يكن مئات الآلاف من ابنائها و الذين يمثلون مستقبل القبيلة التي تعتمد في قوتها و منعتها على الكثرة و العزوة.
من جهة اخرى، فقدت دارفور خيرة ابناء قبائل المساليت و الفور و الزغاوة ، حصاداً على يد قوات مليشيا الدعم السريع و بسلاحها تحت مظلة الصراع و النزاع الازلي (ما بين القبائل العربية و القبائل الزنجية الافريقية أو ما يعرف بصراع العرب و الزرقة) و المبنى على اساس من الاقصاء و الكراهية الاثنية و القبيلة و بدواعي الاستعلاء العنصري
معظم ابناء هذه القبائل دفعت الثمن فلذات اكبادها دون مقابل الا وعود زائفة سوقت لهم اخفاءاً لحقيقة معلومة، و هي مشروع تنصيب دقلو و آله حكاما للسودان الجديد، ليكونوا ظلاً في الحكم بالسودان لقوى اقليمية و دولية لها اجندة و مطامع و مصالح في السودان، و وجدت ضالتها في دقلو و آله و الذين يحلمون و يمنون النفس بتأسيس دولة العطاوة و التي تعتمد التصنيف القبلي اساسا للحكم و السلطة و الثروة على نظام بغيض و شائه يعلي عناصر قبيلة الرزيقات على غيرهم و في قبيلة الرزيقات يعلى عناصر بطن الماهرية على من سواهم، فراكبت أمانيه بأمانيها و تلاقت ارادة الشر بينهم جميعا.
لقد كان (التمييز) الذي ظلت قيادة مليشيا الدعم السريع تمارسه و على اساس اثني قبلي بطني، يميز الماهرية و المحاميد على غيرهم في استحقاقات القتال من رتبة و منزلة و مخصصات و عناية قبل و اثناء و بعد المعركة سمة بارزة و سلوك اثبتته الايام و المواقف، هذا الامر فجر ثورات و تمرد و عصيان داخلي و بدأ الجند ينتبهون له مما جعل بعض الاصوات الداخلية ترتفع معلنة تزمرها و تهديدها بترك القتال و وضع السلاح او الانضمام للصف المقابل من قوات الجيش او القوات المشتركة.
كل ذلك جاء نتاج الاستعلاء العنصري و التمييز السلبي الاثني و بدأ يشكل ضغطاً على قيادة المليشيا المتمردة و التي بدأت أصلاً في التفكك و الانهيار و التصدع مما دعاها مؤخرا لمحاولة بث روح و دماء جديدة في صفوف المقاتلين و مما دعاها كذلك لتوجيه خطابات التطمين و الاسترضاء و نكران وجود اي لمحة من ملامح التمييز العنصري، و بدا ذلك بائنا في خطابات دقلو الاخيرة محاولا استرضاء مقاتليه و حثهم على القتال من جديد و محاولا لملمة اطراف تزمرهم او تمردهم احيانا.
هؤلاء الشباب كانوا عماد القوة البشرية للمليشيا و ركيزتها الحقيقية، واستُخدموا وقودًا في حرب لم يكن لهم فيها ناقة ولا جمل، حرب ادّعت مواجهة (المركز) أو (نظام الخرطوم) و أحياناً (دولة 56)، لكنها في حقيقتها كانت ضد الوطن نفسه، وضد مؤسساته وشعبه، وضد وحدة السودان وسلامه الاجتماعي.
تعددت المبررات السياسية والعسكرية التي سوّقها قادة المليشيا لتبرير هذه الحرب، بدءًا من خطاب التهميش والتوزيع العادل للثروة والسلطة، وصولًا إلى ادعاءات محاربة الفساد أو حماية الثورة. غير أن الواقع كشف زيف كل هذه الدعاوى؛ إذ تحولت الحرب إلى أداة لهدم مؤسسات الدولة السودانية، وتعطيل الحياة في الخرطوم وولايات السودان، وباتت مليشيا الدعم السريع رأس الحربة في مشروع تدميري يخدم أجندات خارجية تهدف لتقسيم السودان وإضعاف جيشه، وليس تحقيق أي مكسب حقيقي لأهالي دارفور أو أي سوداني.
لقد لعب حميدتي وإخوته الدور الأبرز في تنفيذ هذه المخططات، فتحولوا إلى أدوات مطواعة بأيدي أطراف خارجية معروفة بسياساتها في زعزعة استقرار الإقليم وإشعال النزاعات لنهب الثروات وإعادة رسم خرائط النفوذ. بهذه السياسة، أضر حميدتي بأهله أولًا قبل غيرهم، إذ قادهم إلى الموت والدمار، وأشعل صراعًا أهليًا سيفقدهم مستقبلًا توازنهم الديمغرافي وقدرتهم على الاستقرار.
من العبارات العامية التي انتشرت في المجتمع مؤخراً، عبارة (دنيا زايلي و زايل نعيمكي) و عبارة (الحربة كملت عيالنا) و هو تعبير موغل في الحزن و الألم و عميق في معناه و يؤكد حجم الفاجعة التي منيت بها هذه المجتمعات و كثير من الاسر اثر فقدانها فلذات اكبادها، إن ما فعله حميدتي هو محرقة إثنية وقبلية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فقد تسبب في إبادة آلاف الشباب من نفس القبائل التي يدّعي الدفاع عن حقوقها، وجعلهم خصومًا لأبناء الوطن في باقي ولايات السودان. وليس من المبالغة القول إن هذا النزيف الدموي سيؤثر سلبًا في تركيبة السكان في غرب السودان لعقود مقبلة، ما يفتح الباب أمام أزمات اجتماعية عميقة تهدد السلم الأهلي وتخلق ثأرات يصعب تجاوزها بسهولة.
إن ما ارتكبه حميدتي وإخوته من جرائم بحق أهله وبلده سيظل وصمة في التاريخ، لأنه لم يكن صراعًا من أجل الحقوق ولا معركة لتحسين الأوضاع، بل محرقة متعمدة التهمت خيرة شباب الغرب السوداني وزرعت الأحقاد، وفتحت جروحًا غائرة في جسد الوطن، و سيكتب التاريخ (ان دقلو و آله كانوا قادة ابادة أبناء دارفور و شعبها الذين اوردوا بنيها المهالك) . وحده مشروع وطني جامع، يعيد بناء مؤسسات الدولة ويحمي النسيج الاجتماعي، كفيل بإيقاف هذا النزيف واستعادة السلام العادل والنهضة المنشودة في كل ربوع السودان.
إن السودان اليوم أمام لحظة تاريخية فارقة، تتطلب من جميع السودانيين، ومن القوى الإقليمية والدولية، الوقوف بصدق لإيقاف هذه المحرقة وإنقاذ ما تبقى من مستقبل الشباب، ودعم مسار وطني جامع يؤسس لدولة مدنية ديمقراطية تحفظ كرامة الإنسان السوداني وتصون وحدة البلاد.
الأحد 6 يوليو 2025م