
1
في نهاية الحلقة الأولى من هذا المقال قلت: (يحاولون الآن فرض نموذج دايتون “معدّل”، وتُعدّ سيناريوهات متنوعة قريبة من سيناريو دايتون). ما هو نموذج دايتون ولماذا يتم اختياره؟ اتفاق دايتون (1995) فرضته الولايات المتحدة بعد تدخل عسكري ودبلوماسي حاسم، جمع قادة الأطراف المتحاربة في البوسنة في قاعدة عسكرية أمريكية، وتمت صياغة الاتفاق تحت ضغط شديد، ضمن تسوية مفروضة، لا تفاوضية. أنهى الحرب عبر تقسيم السلطة، ونشر قوة حفظ سلام، وتجميد الصراع على أساس وقائع القوة!!
لماذا يتم اختيار نموذج دايتون؟
ورغم أن سياق يوغسلافيا مختلف، فإن التهديدات الماثلة في السودان شبيهة: من تهديد بتفكك الدولة، ، أطراف مسلحة متعددة، فشل الوساطات المتعددة، ثم تحوّل الدعم السريع إلى مليشيا خطرة وملعونة دوليًا ترتكب جرائم الإبادة والتطهير العرقي تمامًا مثل مليشيات الصرب في التسعينيات، كما تحولت تلك المليشيات مؤخرًا لتهديد إقليمي، الوضع تأزّم أكثر بعد سيطرة الدعم السريع على المثلث الحدودي بين السودان ومصر وليبيا (11 يونيو 2025)، وهو ما اعتبرته مصر تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، ثم جاءت حادثة أفريقيا الوسطى، عندما اتهمت الأمم المتحدة قوات الدعم السريع بقتل جندي سلام زامبي (27 يونيو)، وقبلها الهجوم المسيّر على بورتسودان في 4 مايو.كل ذلك يحدث في لحظة تزداد فيها أهمية البحر الأحمر جيوسياسيًا، وتسعى فيها واشنطن وحلفاؤها لتحجيم نفوذ إيران وروسيا في المنطقة.
2
المتغير الحاسم في هذا المنحى هو نمط التدخل الترامبي “صفقات، لا مفاوضات”، ترامب لا يحب العمليات التفاوضية الطويلة، بل يفضّل فرض اتفاق نهائي بطريقة حادة وسريعة، كما فعل في اتفاقات أبراهام ، تهديد طالبان ثم توقيع اتفاق الدوحة، ومؤخرًا الكونغو ورواندا.
إذن، من المرجح أن تنتهج ادارة ترامب نهج “دايتون سريع”: تُحضِر الأطراف، يفرض اتفاقًا، وتُشهر العصا والجزرة عبر الإكراه الدبلوماسي + احتكار العملية التفاوضية أمريكيًا، والتهديد بالعقوبات، وحتى استخدام القوة، ويفرض اتفاق لا أحد يعبأ بنتائجه المستقبلية.
3
والآن هناك فكرة جاهزة لحل الصراع في السودان وهى (اجمع بين مساري جدة والرباعية: أمريكا، السعودية، مصر، الإمارات، وبريطانيا وقطر اللتان أُضيفتا مؤخرً).
معهد سياسات الشرق الأدنى قدّم بالفعل رؤية تقوم على دمج مساري جدة والرباعية (أمريكا، السعودية، مصر، الإمارات، بريطانيا، وقطر المضافة لاحقًا)، ويقترح تشكيل أمانة تنفيذية في جدة تشرف على الاتفاق، وإعلان وقف إطلاق نار بإشراف الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، وتحويل إعلان جدة إلى اتفاق سياسي ملزم بقرار من مجلس الأمن، مع دمج المجتمع المدني والأقليات.
4
يتطلب تنفيذ فكرة المعهد هذه وتوصياته، وبهكذا سيناريو، توافق السداسية على تسوية ملزمة بإشراف دولي صارم على تنفيذ وقف إطلاق النار تحت تهديد بعقوبات شاملة (مالية، وعسكرية، وسياسية، وحتى التهديد بالمحاكم الدولية – مرة أخرى نموذج البوسنة). على من يرفض تلك التسوية، ومن ثم رفع الجزرة، وربط التسوية ببرنامج إعادة إعمار بضمانات دولية .!! مثل ضمانات نيفاشا وقصة الـ5 مليار دولار التي وعد بها المجتمع الدولي في أوسلو لدعم عملية السلام الشامل في السودان (2005) ، إضافة إلى وعد بشطب ديون السودان وأمانٍ عذبة بشراكة أمنية واقتصادية مع الغرب والخليج!!
المشكلة أن الموقف السعودي/المصري/القطري ليس متطابقًا، أو لنقل غير متوافق بشكل كامل، مع الموقف الإماراتي/البريطاني/الأمريكي من جانب آخر. إذن، في المرحلة الأولى يجب أن تتوصل أمريكا لاتفاق بين حلفائها على خطة موحدة، بناءً على سيناريو المعهد أو سواه، ولكن ذلك لم يحدث حتى هذه اللحظة، وهو الشيء الذي أدى إلى تأجيل اجتماع الرباعية أو السداسية من يوم 20 يوليو إلى 29 يوليو 2025!!
بناءً على ما ستتفق عليه أطراف السداسية، تُقدم مسودة اتفاق ، يُستخدم فيها الضغط العلني الشديد، وتهدف إلى فرض واقع تفاوضي بلا مساومة، على الطريقة الترامبية، تشمل وقف إطلاق النار الشامل والفوري، ثم الدعوة إلى مفاوضات على أساس جدة، واحتمال إدخال وثيقة المؤامرة في المنامة، ويكون ذلك التفاوض تحت رقابة دولية بصيغة احتكارية أمريكية (نموذج دايتون).
4
يواجه هذا السيناريو عدة إشكاليات من شأنها أن تعصف به. أولها قضية وقف إطلاق النار: على أي أساس يتم فرض أو إعلان وقف إطلاق النار؟ هذا المسار يواجه إشكاليات ضخمة: أهمها، أن فرض وقف إطلاق النار على أساس الوضع الميداني القائم الآن يعني إنقاذ المليشيا من السحق، ويمنحها موقعًا تفاوضيًا يشرعن وجودها… بل هو خطوة عملية لتقسيم البلاد!
كيف يمكن بعد كل الدماء والتضحيات أن يُعاد دمج قادة الإبادة على قمة الدولة؟ هذا وهم لن يقبله الجيش، ولا تحالف الكرامة الذي يقاتل الآن
مع الجيش.
هذا كلام مستحيل!!
ولن يجرؤ شخص واحد أو قائد أن يوقع اتفاقًا يسمح بعودة المليشيا أو أيٍّ من رموزها، كما يستحيل أن توافق أطراف تحالف الكرامة الذي يحارب في الميدان الآن مع الجيش على هكذا اتفاق او سيناريو.
5
الحكومة في هذا الصدد رؤيتها واضحة، طرحتها في خارطة الطريق أمام العالم كله في الأمم المتحدة، وسُلمت لكل الذين وصلوا بورتسودان مؤخرًا يستطلعون موقف الحكومة الرسمي، وهو ذات الموقف الذي طُرح في فبراير 2025 (عدم القبول بدعوة لوقف إطلاق نار ما لم يُرفع الحصار عن مدينة الفاشر، على أن يتبع وقف إطلاق النار انسحاب فوري لقوات الدعم السريع من الخرطوم وغرب كردفان وولايات دارفور). تفصيل مهم : وهو أن موقف الحكومة وخطتها جمع قوات المليشيا في معسكرات مختارة خارج المدن لحين النظر في مستقبل ما تبقى منها.هذا ما تراه الحكومة، ويمكن أن تقبل إعلان وقف إطلاق النار مبدئيًا، بناء على تعهدات المجتمع الدولي، ولكن: كيف نضمن أن المليشيا لن تماطل في فك حصار الفاشر أو انسحاب فوري من دارفور وكردفان؟ بل قد تسعى لاستجماع قوتها ومعاودة القتال مرة أخرى.
هل المليشيا، وهي في حالتها المنقسمة جهويًا وقبليًا، وعدم سيطرتها ميدانيًا على قواتها، هل يمكن أن تلتزم بأي وقف لإطلاق النار، وتترك الهجوم على القرى والنهب والقتل المجاني في أنحاء كردفان ودارفور؟!!
من يضمن ذلك؟
لن يضمن احد مليشيات مجرمة ليس لديها أي معايير أخلاقية ولا دينيه حتى لو جاءت قوات حفظ سلام بالآلاف من أركان العالم لن تسطيع أن تلزمها بشى، هل نحتاج أن نذكر العالم بتجربة سيئة الذكر (قوات اليوناميد) التي أُدخلت في البلاد، الآلاف من الجنود لحفظ الأمن، وصُرف عليها 22 مليار دولار، ولم تقف الحرب، ولم يُحفظ الأمن، بل ازدادت الضرورة.
ولذا، فإن الحرب لن تتوقف مع المليشيا بمجرد إعلان وقف لإطلاق النار إن حدث، إنما تتوقف إذا تم الضغط على الراعي الإقليمي، ليتوقف عن دعم ميليشيات الدعم السريع أولًا، ثم إصدار أوامره بتعليمات واضحة بسحب كل جنجويد المليشيا خارج المدن إلى المعسكرات، وإنهاء أي دور مستقبلي للمليشيات في النواحي العسكرية والسياسية، وفك الارتباط بها نهائيًا.
بغير ذلك، فإن ما يجري في دايتون الجديدة الترامبية، وإن فُرضت، مجرد حرث في بحر الخداع المالح.
6
معضلة أخرى تواجهها دايتون الجديدة، وهي أن السودان لن يثق في وعود السداسية لأنه جرّب الخداع الدولي عشرات المرات، من نيفاشا (2003)، ووعود أوسلو (2005)، ومؤتمر باريس (2021) وجنيف (2024)، ولندن (2025) كلها “فشنك” ومجرد كذب، لن يثق فيها أحد.
وللأسف، ليس هناك أي ضمانات لتنفيذ أي وعود، دائمًا ضغوط المجتمع الدولي حاضرة وتُنفّذ فورًا، ولكن وعوده مجرد هراء لا تُنفّذ أبدًا.
لذا، فإن هذه المرة يجب أن ندعو إلى تأسيس صندوق فوري دولي (للإعمار والتنمية)، توضع فيه الأموال التي تعلن عنها الدول مباشرة قبل توقيع أي اتفاق سياسي شامل لا يدخل فيه الدعم السريع بأي صيغة.
اتفاق بين كافة المكونات السياسية السودانية فقط، لا غير، وقبل تحبير مثل هذا الاتفاق يكون في هذا الصندوق المبالغ المطلوبة لإعمار ما دمرته الإمارات والدعم السريع. بغير ذلك، سنقبض ريح الوعود، كما كنا نفعل كل مرة.إذا أراد العالم أن يساعد، فليبدأ بالمساعدة الفعلية، لا فرض الوصايا.
الخيار الآخر هو أن يتركنا العالم وشأننا، ندبّر أمورنا، نُسوي قضايانا بأيدينا، ندير حوارنا بعيدًا عنه، نتفق أو لا نتفق، هذا أمر لا يخصه، يخصنا وحدنا.
إذا أراد العالم أن يتدخل ويعتقد أن هذه الحرب خطر عليه وتهدد أمنه، إذن، فليساعدنا لنُخمدها بمساعدات فعلية حاضرة لإعمار البلاد وتنميتها، لا بوعوده الجوفاء.