الرواية الأولى

نروي لتعرف

الكتلة الحرجة / ود البلد

خطاب حميدتي بعد الفاشر.. حين يحاول الجاني ارتداء عباءة الدولة

لغة الحرب في ثوب الدولة

حين يتحدث القاتل باسم الوطن، تُصبح اللغة ساحة حرب أخرى.

أطلّ محمد حمدان دقلو (حميدتي) بعد سقوط الفاشر ليقدّم خطابًا أراده تبرئة للذات، فتحوّل إلى اعتراف غير مباشر بواقعٍ مفزع: أن السودان يتآكل بين أيدي من يزعمون أنهم ينقذونه.
لم يكن الخطاب، الذي بُث مساء امس التاسع والعشرين من أكتوبر ، سوى محاولة لتجميل الخراب بلغة الدولة. تحدّث حميدتي عن “وحدة السودان” بينما قواته تحاصر آخر معاقل الشمال الغربي، وعن “لجنة تحقيق” في تجاوزات هم من ارتكبوها، وعن “عودة آمنة للمدنيين” فيما الفاشر تنزف وتشيّع موتاها. حتى قوله إن “الحرب فُرضت علينا” بدا كمن يعيد كتابة التاريخ بالرصاص.

الرسائل الموجّهة للعالم لا للشعب

لكن ما يلفت في الخطاب ليس ما قيل فحسب، بل ما أُريد له أن يُسمع. فالمتحدث لم يكن يوجّه كلماته للسودانيين، بل للعالم أيضًا. كان يخاطب العواصم الإقليمية التي تتابع بدهشة كيف انتقلت السيطرة الميدانية إلى المليشيا، وللمنظمات الدولية التي وثّقت الجرائم الجماعية في دارفور. لقد أراد أن يقول: “نحن شرعيون، نحن دولة”؛ لكنه نسي أن الشرعية لا تُبنى على أنقاض المدن.

بين عباءة المليشيا وثوب الدولة

الخطاب بدا مرتبكًا، يحاول أن يلبس ثوب الدولة دون أن يخلع عباءة المليشيا. لغة المصالحة كانت هناك، لكنها بلا مضمون؛ تمامًا كجثة تُجمّل بالزهور قبل الدفن.
استُخدمت مفردات مثل “الوحدة، السلام، التحقيق، العودة”، وهي مفردات ذات وقع وطني، لكنها صيغت في بنية لغوية تحتكر الفعل وتبرّئ الذات: “شكلنا لجنة”، “ندعو للعودة”، “نحن دعاة سلام”. إنها صيغة السيد الذي يمنّ على الآخرين بالأمن، لا المواطن الذي يشاركهم المصير.

الفاشر.. الاختبار الحقيقي للدولة المركزية

وفي خلفية هذا المشهد، تتبدى الفاشر بوصفها أكثر من مدينة؛ إنها مرآة لواقع السودان كله. المدينة التي قاومت حتى اللحظة الأخيرة كانت تمثل آخر رمزية لوجود الدولة في غرب البلاد. بسقوطها، لم تسقط منطقة فحسب، بل تعرّضت الدولة لاختبار قاسٍ في قدرتها على حماية أطرافها. ولهذا لم يكن خطاب حميدتي مجرد تصريح سياسي، بل إعلان مرحلة جديدة في الحرب: مرحلة التكريس لما بعد الدولة المركزية.

الأهداف الخمسة.. من الدعاية إلى الاستراتيجية

الأهداف الخمسة من ظهوره العلني كانت واضحة: احتواء الغضب الدولي بعد تقارير المجازر، تهدئة القبائل في دارفور، الضغط على الجيش بكشف “التفاوض السري”، إظهار نفسه كرجل دولة، وإرسال رسالة طمأنة إلى الشرق قبل تحرك عسكري محتمل. لكن كل ذلك لم يُخفِ التناقض الأكبر: كيف يدّعي بناء جيش وطني وهو من يسعى لتفكيك نسيج الجيش نفسه؟ وكيف يتحدث عن حكومة مدنية فيما سلطته قائمة على القوة والسلاح؟

ما بعد الفاشر.. بداية مرحلة أشدّ قسوة

ولأن السياسة لا تُقاس بالنوايا بل بالوقائع، فإن ما بعد الفاشر ليس سلامًا بل بداية مرحلة أشدّ قسوة، حيث يسعى زعيم المليشيا إلى انتزاع شرعيةٍ من رماد المدن. محاولته لتسويق نفسه كـ”رجل دولة” هي جزء من صراع أوسع على تعريف من يملك الحق في الحديث باسم السودان. في المقابل، يواصل الجيش السوداني صموده في الشرق والوسط، محافظًا على السيطرة على العاصمة والموانئ الحيوية، ومستعدًا لاستعادة زمام المبادرة في أي لحظة.

التناقضات الإقليمية والصمت المقصود

الموقف الدولي بدا بدوره متذبذبًا. مصر طالبت بتحقيق مستقل ووقف الانتهاكات، والأمم المتحدة رحبت باللجنة بشرط الإشراف الدولي، فيما صمتت الإمارات التي تدعم المليشيا ماليًا وسياسيًا وإعلاميًا وعسكريًا. هذا التفاوت في المواقف يعكس معركة نفوذ صامتة على أرض السودان، حيث تتقاطع مصالح البحر الأحمر والذهب والحدود المفتوحة. كل طرف يرى في السودان ساحة نفوذ أكثر من كونه وطنًا ينزف.

الخاتمة.. من يتحدث باسم السودان؟

ربما ينجح الخطاب مؤقتًا في إرباك المشهد، لكنه لن يغيّر جوهر المعادلة: لا دولة تُقام على أنقاض مدينة مدمّرة، ولا سلام يمر من فوهة بندقية.
الفاشر ليست انتصارًا، بل مرآة تكشف واقع وطن مكلوم في من يزعم أنه يُنقذه، وجرحًا مفتوحًا في الضمير الوطنى لن يلتئم ما دام الجاني يتحدث بلغة الضحية.
في النهاية، سيُكتب تاريخ السودان لا بما قاله حميدتي أمام الكاميرات، بل بما قاومه الناس في الفاشر تحت القصف. فالكلمات مهما تجمّلت، لا تمحو آثار الدم، ولا تصنع دولة من دخان. السودان لن يُنقذه من يقتل أبناءه، بل من يحميهم. وما لم ينهض السودان من تحت هذا الركام بوطنٍ واحد وجيشٍ واحد، سيظل السؤال قائمًا: من يتحدث باسم السودان؟ القاتل أم الضحية؟

اترك رد

error: Content is protected !!