الرواية الأولى

نروي لتعرف

فيما أرى / عادل الباز

خطاب البرهان : التوقيت والرسائل

عادل الباز



1
لماذا جاء خطاب البرهان في هذا التوقيت؟ ولماذا أمام قادة الجيش؟ وما هي الرسائل للجيش وللعالم وللشعب وللمعارضة وللرباعية؟. خطاب البرهان لم يكن مجرد كلمات… بل كان تثبيتاً للبوصلة في زمن التيه، وتأكيداً أن الحرب لن تتوقف بورقة تُملَى من الخارج، بل بقرار يكتبه السودانيون وحدهم كما لا يمكن فصل الخطاب عن حالة القلق الإقليمي والدولي التي صاحبت سقوط الفاشر، وما تبعه من سباق محموم لكتابة الرواية السياسية قبل أن يفرض الميدان كلمته الأخيرة؛ فقد شعر الجميع أن السودان يقف عند مفترق طرق، وأن أي كلمة من رأس الدولة ستكون محسوبة ومحل قراءة عميقة.
2
الجيش، الذي تحمّل عبء المعركة على مدى ما يقارب العامين، كان بحاجة إلى رسالة مباشرة، خالية من الالتباس، تؤكد أن القيادة السياسية ما تزال متناغمة مع نبض الشارع و الميدان، وأنها تدرك خطورة اللحظة الفاصلة التي يمر بها الوطن.وعليه، فإن الخطاب لم يكن مجرد بيان ظرفي، بل إعلانٌ عن مرحلة جديدة، مرحلة يحاول فيها الجيش ترميم الجبهة الداخلية، وصياغة معادلة سياسية قائمة سيادة الوطن لا على رغبات ونزوات الرباعي.
3
بعد خطاب الرئيس البرهان أمام قادة الجيش، استوقفتني أسئلة كثيرة، فأعدت قراءة الخطاب، وطفقت أجمع المعلومات اللازمة، وأود في هذا المقال أن أُشرك القراء في تصوري للإجابات التي ظللت أبحث عنها منذ استماعي للخطاب.
السؤال الأول حول التوقيت…
لاحظت أن الخطاب جاء بعد تحركات داخلية وخارجية عدّة على خلفية التفاعل المحلي والدولي في مرحلة ما بعد سقوط الفاشر. في هذا التوقيت، عادت الرباعية مستفيدة من الأجواء التي رافقت سقوط الفاشر، مطالبةً بهدنة مستعجلة تحت غطاء إنساني زائف، غاب عن أجندتها لمدة 500 يوم حوصر فيها أهل الفاشر، بل ومات المئات منهم جوعاً. وبسرعة فائقة، قبلت الميليشيا الهدنة التي رفضتها؛ قبلت بها بعد أن قتلت الآلاف من أهل الفاشر.
جاء التوقيت أيضاً بعد أن أذاعت الميليشيا وأبواقها أن الرئيس البرهان قبل الهدنة على وقع الهزيمة، وأنه سيمضي عليها خلال ساعات، فضج الرأي العام، وتحوّلت عبارته الشهيرة «هدنة بتاع فُنيلتك» إلى ترند واسع، كمؤشّر على رفض الشارع لأي هدنة بعد ما جرى في الفاشر.
وجاء التوقيت كذلك بعد اتصال الرئيس البرهان بالأمير محمد بن سلمان، وبعد حديث الأخير مع ترمب، وعلى أثر تصريحات ترمب الأخيرة بشأن السودان وإعلانه بدء تدخله في الملف.
كما جاء الخطاب عقب جولة تفقدية قام بها الرئيس البرهان لمعسكرات الناجين من مقتلة الفاشر في الدبة والشيخ الياقوت والقطينة. وفي كل تلك اللقاءات يستمع لما يطلبه الشعب: «هدنة بتاع فنيلتك »، في كل مرة بلغة ولحن مختلفين. وكانت تلك إشارات مهمة لمن يهمهم الأمر، فقد اتضح لهم أين يقف الشعب، وما هو مزاجه، وما هي حقائق الرأي العام على الأرض. ها هو القائد يسمع ويتحسس نبض شعبه، والعالم يسمع ويرى معه.
4
وسط هذه الأجواء الملغومة بالإشاعات والأقاويل، والتي تؤثر مباشرة في الرأي العام داخل أروقة الجيش، بل وتنعكس على قياداته العليا باعتبارهم من يقودون المعارك في الميدان—لم يكن ممكناً ترك الجنود نهباً للشائعات. فهناك أسئلة مُرّة تُطرح: «إذا كانوا سيعلنون وقف الحرب، فلماذا نقاتل؟ ولماذا نموت من أجل صفقة سياسية؟»
كان لقاء قادة الجيش ضرورياً حتى لا تحدث بلبلة وسط المقاتلين، ولا تترخّى الأيادي التي على الزناد. خطاب الرئيس القوي أمام قادة القوات المسلحة كان إجابة بلا لبس على تلك التساؤلات، وأرسل رسائل واضحة لقادة الجيش والجنود والمستنفرين وللشعب عامة، إضافة إلى رسائل مُباشرة لمن يعنيهم الأمر من العملاء الهائمين بالخارج، والدول المنخرطة في الملف تحت اسم «الرباعية» وغيرهم.
الرسالة للجيش:
سنقاتل حتى دحر الميليشيا أو استسلامها. لا هدنة بلا استحقاقاتها. لن نفرّط في وحدة السودان.
الرسالة للمعارضة:
لن تحكموا السودان من الخارج، ولا بالمؤامرات. الشعب وحده هو من يحدد مستقبلكم.
الرسالة للرباعية:
أنتم عِلّة، وجماعة غير مُبرّأة للذمة، لم تتطهر بعد من رجس أبوظبي.
السيد بولس
أنت مجرد «ساعي بريد» لإيصال طلبات الإمارات. ورقتك الأخيرة لا تعنينا. بالسوداني: «تمصّوه بمياه الخليج وتشربها انت ورهط مويته».
ولّى زمانكم وفات الأوان… وبئس المصير لكل فولكر وبولس ومن سار في دربهما.
5
إن توقيت الخطاب، ومكانه، وصيغته، والرسائل المضمّنة فيه، كلّها تؤكد أن البلاد تدخل طوراً جديداً. وفي ظل هذا المشهد المعقّد، يبقى السؤال الأهم: هل ستلتقط الأطراف الإقليمية والدولية هذه الرسائل بوضوح؟ أم تمضي في محاولاتها لإعادة تشكيل السودان وفق رغباتها وأهوائها؟
ما هو مؤكد أن الشعب نفسه أصبح لاعباً رئيسياً، وأن معادلة القوة تغيّرت، وأن أي مبادرة أو هدنة أو مسار سياسي لن يكتب له النجاح ما لم يستند إلى إرادة السودانيين الحقيقية، وإلى وعيهم بما جرى في الفاشر وما سيجري بعدها. وفي هذا الوعي الجديد، تتشكل ملامح المرحلة القادمة.

اترك رد

error: Content is protected !!