الرواية الأولى

نروي لتعرف

من اعماقي / د. امجد عمر

حين يصبح الفقد وعيًا لا مجرد حنين

د. امجد عمر محمد

إحساس الفقد ليس حالة عاطفية عابرة، بل تجربة وجودية تعيد تشكيل علاقتنا بالأشياء وبأنفسنا. حين يغيب ما ألفناه، لا يترك فراغًا فحسب، بل يعيد ترتيب سلّم القيم في الداخل. ما كان مألوفًا يصبح نادرًا، وما كان عاديًا يتحول إلى معنى عميق. الفقد لا يصنع المبالغة، بل يكشف حقيقة ما كنا نملكه دون أن ننتبه.

السر الأول في هذا الإحساس أن الإنسان لا يضخّم قيمة الشيء لأنه بسيط أو تافه في نظر الآخرين، بل لأنه افتقده. الحرمان لا يخلق الوهم، بل يوقظ الإدراك. لذلك فإن تعلّق الإنسان بما يبدو صغيرًا في أعين غيره، ليس ضعفًا في الوعي، بل تعبير صادق عن فجوة أحدثها الغياب. المشاعر لا تُدار بالمنطق وحده، وإنما تُعاد صياغتها بقدر ما نتألم.

من هذا الفهم تحديدًا، يمكن قراءة ما نعيشه اليوم تجاه أماكننا ومنازلنا ووطننا. لم تكن البيوت مجرد مبانٍ، ولا الأحياء مجرد مساحات، ولا المدن مجرد أسماء متداولة، بل كانت إطارًا لحياة كاملة، ووعاءً للطمأنينة، وسياقًا يوميًا للانتماء. وحين فقدناها، أدركنا أن الوطن لم يكن تفصيلًا في حياتنا، بل كان الحياة ذاتها.

لقد كشفت الحرب هشاشتنا أمام فكرة الغياب، وعرّت قيمة الوطن من كل الزوائد والشعارات. صار الوطن إحساسًا خالصًا، لا يُختزل في موقف، ولا يُختطف باسم الخلاف. ومن هنا، يصبح الفقد رسالة واضحة: أن ما خسرناه لا ينبغي أن يكون مدخلًا لمزيد من التنازع، بل منطلقًا لإعادة التمسك بما تبقّى.

إن الاختلاف داخل الأوطان أمر طبيعي، بل ضروري، لكن الخطر يبدأ حين نعجز عن إدارته بعقلٍ بارد ومسؤولية عالية. الوطن لا يحتمل أن يكون ساحة لتصفية الحسابات، ولا حطبًا لنيران الغضب. الحفاظ عليه يقتضي أن نضعه فوق خلافاتنا، لا داخلها، وأن نفصل بين حقنا في الاختلاف وواجبنا في الحماية.

وقبل الوصول إلى الخاتمة، لا بد من قول واضح لا لبس فيه: التمرد على الوطن خيانة، والحرب عليه جريمة، مهما تغيّرت المسميات وتعددت الذرائع. الوطن ليس فكرة قابلة للمساومة، ولا كيانًا يُبتز لتحقيق مكاسب آنية. هذه حقيقة يجب أن يدركها الكبار وعيًا ومسؤولية، وأن يُربّى عليها النشء منذ البدايات الأولى؛ أن الوطن خط أحمر، وأن حمل السلاح في وجهه، أو تبرير تمزيقه، أو التطبيع مع استباحته، انحدار أخلاقي قبل أن يكون خطأً سياسيًا.

ربما يكون أعظم دروس هذا الفقد أن نحوله من وجعٍ صامت إلى وعيٍ جماعي. أن نجعل الألم وقودًا للتماسك، لا مبررًا للانقسام، وبوصلة تعيدنا إلى حقيقة بسيطة وعميقة: أن الوطن أكبر من الجميع، وأبقى من كل نزاع، وأن خسارته لا تعني أحدًا أقل مما تعني الجميع. فحين نفهم الفقد على هذا النحو، يصبح بداية للنجاة… لا مجرد ذاكرة موجعة.

اترك رد

error: Content is protected !!