
لا جدال في أن التقدّم التكنولوجي يُعد من أعظم التحولات في تاريخ البشرية، فقد أعاد تشكيل تفاصيل الحياة اليومية، وغيّر بنية المجتمعات، وفتح آفاقًا غير مسبوقة في الطب والاقتصاد والتعليم والاتصال. في المجال الطبي، أسهمت التقنيات الحديثة في إنقاذ الأرواح، وتسريع التشخيص، وتطوير العلاجات الدقيقة. وفي الاقتصاد، أعادت التكنولوجيا رسم خرائط الإنتاج والتجارة، وخلقت فرصًا جديدة للعمل والاستثمار، وربطت الأسواق في شبكة واحدة. أما في التعليم والمعرفة، فقد كسرت قيود المكان والزمان، وجعلت المعلومة في متناول الجميع. هذا الوجه من التطور يمثل إنجازًا إنسانيًا حقيقيًا، لا يمكن إنكاره أو التقليل من أثره.
لكن هذا التقدّم المتسارع في الوسائل طرح سؤالًا يتجاوز الإعجاب بالمنجزات: هل واكب هذا التطور توسع مماثل في حسن التقدير، وسلامة الاختيار، والقدرة على النظر في العواقب؟ هنا تتكشف المفارقة الأساسية في عصرنا. فالتكنولوجيا، بطبيعتها، محايدة أخلاقيًا؛ لا تهدي إلى الصواب ولا تمنع الخطأ، بل تضخّم ما في الإنسان. هي تمنح القدرة، لكنها لا تمنح الرشد، وتكافئ السرعة وردّة الفعل، بينما تهمّش التروّي والتفكير المتزن والنظر في المآلات.
من هذا الخلل نشأت فجوة واضحة بين ما يستطيع الإنسان فعله وما ينبغي عليه فعله. سبقت الأدوات الوعي، وتقدّمت الإمكانات على حساب المسؤولية. أصبح الوصول إلى المعلومة أسهل من فهمها، والتأثير أسرع من تقدير نتائجه. لم يعد السؤال الأبرز: هل هذا صواب؟ بل: هل هو ممكن؟ وهل يحقق انتشارًا أو مكسبًا؟ ومع الوقت، تحولت التكنولوجيا من وسيلة في يد الإنسان إلى قوة ضاغطة تعيد تشكيل سلوكه وخياراته، دون أن يصاحبها نضج فكري أو أخلاقي كافٍ.
هذا التحول تزامن مع تراجع المرجعيات الجامعة التي كانت تشكل الإطار الناظم للسلوك الإنساني. فالدين، بما يحمله من منظومة قيم واضحة ومعايير ثابتة، جرى إبعاده من موقع المرجعية الملزمة إلى نطاق الخيار الفردي. والأسرة، التي كانت المدرسة الأولى لتشكيل الضمير، تراجع دورها تحت ضغط الإيقاع الاقتصادي وتسارع الحياة. أما الهوية الجامعة، فقد ضعفت لصالح هويات جزئية مؤقتة، وذابت الجماعة التي كانت تمارس رقابة أخلاقية اجتماعية في فضاء افتراضي بلا محاسبة. وفي هذا السياق، أُعيد تعريف القيم بلغة نسبية مرنة، أفرغتها من ثباتها وحوّلتها إلى شعارات قابلة للتكيّف وفق المصلحة والظرف.
في هذا الفراغ القيمي برز ما يمكن وصفه بالارتباك الأخلاقي. فالإنسان لم يفقد إحساسه الداخلي بالخطأ والصواب، لكنه فقد مرجعية الاحتكام. لم يعد الخطأ مرفوضًا لأنه كذلك، بل لأنه لم يُعتد عليه بعد، فإذا تكرّر صار مألوفًا، وإذا قُدِّم بلغة جذابة أو تحت لافتة الحرية أصبح مقبولًا. ومع الزمن، لا ينتصر السلوك المنحرف بالقوة، بل بالتطبيع، ولا يتراجع السلوك القويم بالهزيمة، بل بالتهميش.
وهذا الارتباك ليس بلا مستفيدين. فالسوق يحقق أرباحًا أكبر من إنسان بلا ضوابط، لأن الاستهلاك حين يتحرر من القيم يصبح أكثر اندفاعًا. والسلطة ترتاح لفرد معزول أكثر من مجتمع متماسك، لأن الفرد المنفصل عن جماعته أقل مساءلة وأضعف قدرة على الاعتراض. أما المنصّات الرقمية، فلا تعنيها قيمة الفكرة بقدر ما يعنيها حجم التفاعل وسرعة الانتشار. في هذا المشهد، تُدار القيم بمنطق الخوارزميات، ويُعاد تعريف الصواب والخطأ وفق ما يجذب الانتباه لا ما يحفظ الاتزان والمعنى.
ومن هنا يبرز السؤال الجوهري: من يملك اليوم حق تعريف الخير والشر؟ هل هي المرجعيات القيمية التي صاغت وعي المجتمعات عبر التاريخ؟ أم الإعلام، ومنصّات النفوذ، ومن يملكون القدرة على توجيه الرأي العام؟ حين يُنتزع هذا الحق من منظومة القيم ويُسلَّم لمن يملك التأثير لا حسن التقدير، تتحول الأخلاق من معيار ضابط للسلوك إلى أداة انتقائية تُستخدم عند الحاجة وتُهمَل عند التعارض مع المصلحة.
ورغم قتامة هذا المشهد، فإن الحل لا يكمن في معاداة التكنولوجيا أو رفضها، بل في إعادة ضبط العلاقة معها. يبدأ ذلك بإعادة الاعتبار للمرجعيات الجامعة، لا بوصفها عائقًا أمام التقدم، بل ضمانة لتوجيهه. ويتطلب تجديد دور الأسرة في التربية، وربط التعليم بالقيم إلى جانب المهارات، وتقديم الدين بوصفه إطارًا أخلاقيًا جامعًا لا خطابًا صداميًا. كما يستدعي وعيًا عامًا بأن الحرية لا تنفصل عن المسؤولية، وأن القوة التقنية لا قيمة لها دون عقل راشد يوازن بين الفعل ونتائجه.
العالم لا يعاني نقصًا في المعرفة، بل أزمة في حسن التقدير وسلامة الاختيار، ولا يفتقر إلى الوسائل، بل إلى البوصلة. فالتقدم بلا قيم قوة عمياء، والحرية بلا مسؤولية فوضى منمّقة، والحداثة بلا ضمير مظهر لامع يخفي فراغًا عميقًا. والتحدي الحقيقي في هذا العصر ليس كيف نطوّر التكنولوجيا، بل كيف نعيد الإنسان إلى مركزها، بعقله المتزن، وضميره الحي، وقدرته على التمييز، قبل أن نكتشف أن أعظم خسائر هذا التقدم لم تكن تقنية، بل إنسانية.



