
بقلم: د. أمجد عمر محمد
لا تنهار المجتمعات فجأة، بل تبدأ رحلة الانحدار حين تسقط الهيبة، لا هيبة المال أو السلطة، بل هيبة القيم والقدوات. حينما لا يعود للأب في بيته صوت مسموع، ولا للمعلم في فصله احترام واجب، ولا للشيخ في مسجده توقير، ولا للمدير في موقعه تقدير، ولا للقائد في ميدانه طاعة، ولا للكبير في أسرته مكانة؛ حينها نعلم أن المجتمع يعيش أزمة حقيقية، تنخر جذوره بصمت.
الهيبة ليست قهرًا ولا سلطة غاشمة، بل هيبة نابعة من القدوة، من الموقف، من القيم الراسخة، من أن يحمل كل صاحب موقع مسؤوليته بحق، وأن يُحترم لا لأنه يُخيف، بل لأنه يُلهم ويُرشد ويُعلم. حينما يفقد الأب قدرته على التوجيه، والمعلم سلطته التربوية، والشيخ احترام منبره، والمدير سيطرته الإدارية، والقائد ثقته بقيادته، والكبير موقعه الاجتماعي، فإن الشباب ينشأ على فراغ، وتتلاشى الحدود، وتُهدم الثوابت.
وقد أشار القرآن الكريم إلى أهمية احترام القيادة وإعطائها حقها، فقال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ” [النساء: 59]. فأولي الأمر هم من يتحملون مسؤولية التوجيه والقيادة في المجتمع، وسقوط طاعتهم ـ حين تكون قائمة على الحق ـ يعني اختلال النظام.
وفي السنة النبوية، أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا المعنى حين قال: “من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني” [رواه البخاري]. فالطعن في القيادات حين تكون مؤهلة وعادلة ليس مجرد اختلاف، بل هو ضرب في أساسات الاستقرار.
ولعل الواقع السوداني اليوم يقدم لنا نماذج مؤلمة من هذا السقوط المتدرج للهيبة، بدءًا من الاستخفاف بالمعلّم، والطعن في العلماء، وتحقير كبار السن، وصولًا إلى الشك المستمر والطعن في نوايا المسؤولين، واتهام كل من يتصدى للعمل العام بأنه فاسد أو باحث عن مصلحة. هذا الجو من الشك والطعن يعطل المؤسسات، ويثبط الهمم، ويفتح الباب أمام الفوضى.
وفي خضم هذا التيه، يروج البعض لفكرة أن التغيير والحداثة تعني التمرد على كل ما هو قديم، لكن الحقيقة أن ذلك وهم خطير. فليس من الحداثة أن لا تُجل القديم أو تتنكر لأصالته، لأن كل ما هو جديد له أصل قديم، وما ليس له أصل أو جذور، فهو خواء لا يصمد أمام أول رياح تعصف به. فالحضارات تُبنى على تراكم الحكمة، لا على تجاهلها. ومن لا يرى في تاريخه شيئًا يُحتذى، فلن يرى في مستقبله شيئًا يُرجى.
والتاريخ ليس مجرد صفحات من الماضي، بل هو مرآة للمستقبل. فالكثير من الأحداث المستقبلية يمكن قراءتها من خلال أحداث التاريخ، لأن السنن لا تتبدل، والعواقب تتشابه حين تتشابه المقدمات. فمن لا يعي دروس التاريخ، لا يحسن الاستعداد لما هو قادم. وكما قيل: “التاريخ يقول كلمته في المستقبل، لمن أراد أن يسمع”.
وفي هذا السياق، لا بد من إعادة الاعتبار لكبارنا، فهم خزائن التجربة والحكمة. يجب ألا يُنظر إليهم بعد التقاعد وكأنهم انتهوا، بل ينبغي إشراكهم في القرار عبر تكوين مراكز استشارية مستقلة، تضم أهل التجربة من مختلف المجالات، يُؤخذ برأيهم ويُستأنس بمشورتهم. فالمجتمعات العاقلة لا تهدر عقولها، بل تحفظها وتستنير بها، وتوقّر أهلها وتُجلّ مقاماتهم مما يساعد علي نقل القيم والخبرات من جيل الي جيل.
في الماضي، كان لشيخ الحي كلمته، وللأب سلطانه، وللمعلم مكانته، وكانت المجتمعات السودانية تُقدّر الكبير وتجلّ أهل العلم. أما اليوم، فقد استُبدلت هذه القيم العريقة بثقافة هجومية متطرفة، تسللت حتى إلى ساحات التواصل الاجتماعي، حيث يُهاجم الناس أي رمز دون تروٍ أو بينة، مما أدى إلى تفكك الثقة المجتمعية، وغياب مرجعيات الإلهام والضبط الاجتماعي.
المجتمع الذي لا يُعلي شأن قدوته الصالحة، ولا يحفظ للرموز مكانتها، يُغري الجيل الجديد بالتمرد على كل قيمة. يغدو الاحترام ضعفًا، والطاعة خضوعًا مذمومًا، وتصبح الفوضى مرادفًا للحرية. وشيئًا فشيئًا، يفقد الناس بوصلتهم، فلا يعرفون إلى من يستمعون، أو بمن يقتدون.
إن سقوط الغدوة الحسنة هو سقوط للمعنى، وانهيار للتماسك، وغياب للبوصلة. وإعادة بناء المجتمعات لا تبدأ من البنية التحتية، بل من البنية الأخلاقية، من استعادة الهيبة لا بالعصا، بل بالقيمة. حين يعود الأب قدوة، والمعلم مُلهمًا، والشيخ هاديًا، والمدير منصفًا، والقائد حازمًا عادلًا، والكبير حكيما؛ يعود للمجتمع اتزانه، وتبدأ دورة النهوض من جديد.
فالهيبة ليست امتيازًا شخصيًا، بل مسؤولية جماعية؛ ومتى ما أدركنا ذلك، حفظنا مجتمعاتنا من السقوط.