
إن إنشاء الهيئة الوطنية للأمن السيبراني يمثل خطوة محورية نحو بناء دولة رقمية قادرة على حماية فضائها المعلوماتي، في وقت أصبحت فيه الهجمات الإلكترونية تهديدا يوميا يطال الأفراد والمؤسسات والدول على حد سواء.
إن نجاح هذه الهيئة لا يتحقق بمجرد قيامها، بل يعتمد على قانون محكم، يصاغ بعناية على يد ذوي الخبرة، ويمنحها الاستقلالية والسلطات اللازمة لتضطلع بمهامها بكفاءة وشفافية.
تبرز أهمية هذا القانون في ظل وجود أجسام قائمة تعمل في مساحات متشابكة، مثل مركز المعلومات بالمركز القومي للمعلومات، ووحدة «سيرت CERT» بجهاز تنظيم الاتصالات، والمصادقة الإلكترونية التابعة لوزارة التحول الرقمي والاتصالات. فالقانون المرتقب ينبغي أن يحسم هذا التداخل، وأن يجعل اختصاصات هذه الجهات جزءا أصيلا من الهيئة الجديدة، بحيث يصبح العمل السيبراني تحت مظلة واحدة، رؤية واحدة، وخطة وطنية موحدة. كما أن تبعية الهيئة لوزير التحول الرقمي والاتصالات تمنحها الاستقلالية في الهياكل وتكاملا في صنع القرار.
ولصياغة قانون ناضج يستوعب تحديات الواقع السوداني يجب الاستفادة من التجارب الإقليمية المشابهة، وتبدو التجربتان السعودية والأردنية الأقرب للواقع السوداني.
فالسعودية وضعت واحدة من أكثر التجارب العربية نضجا من خلال هيئتها الوطنية للأمن السيبراني، وقد استطاعت إصدار ضوابط لقطاعات الدولة، وتوحيد المعايير، وإنشاء مركز عمليات وطني يعد مرجعا لكل الجهات. هذه التجربة تظهر أهمية وجود معايير موحدة، وصلاحيات تنفيذية واضحة، والقدرة على المتابعة والمراجعة الفعلية، وليس مجرد التنسيق النظري.
وفي المقابل فإن التجربة الأردنية أبرزت أن القانون لابد أن يحقق توازنا دقيقا بين حماية الدولة وحماية الحقوق الرقمية للمواطن ، فالامن السيبراني إذا لم تضبط حدوده قد يتحول الى مظلة فضفاضة تؤدي الى كثير من الإشكاليات والتشوهات. ومن هنا تأتي أهمية تضمين القانون، ضمانات تبني الثقة بين المواطن والجهات الرقابية.
وفي كل الأحوال، فإن الاعتماد على التجارب الإقليمية وحده لا يكفي، بل ينبغي أن يستند القانون إلى دعم فني متخصص، وهنا يأتي دور منظمة الإسكوا -اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا- التابعة للامم المتحدة والتي تمتلك خبرة واسعة في مساندة الدول العربية في وضع التشريعات الرقمية، وتطوير الأطر السيبرانية، وبناء القدرات المؤسسية. ويمكن الاستفادة من خبراتها في هذا المجال في صياغة قانون يتسق مع المعايير الدولية، ويراعي خصوصية البيئة المحلية.
كما أنه من المهم أن يعرض القانون على جهات مستقلة غير مرتبطة بالاجسام الحالية لضمان العدالة والشفافية، ومن يصبح طرحه للنقاش العام ضرورة وطنية، لضمان مشاركة كل الأطراف، والمشروعية المجتمعية قبل إجازته رسميا.
إن نجاح الهيئة الوطنية للأمن السيبراني مرهون بإنجاز مثل هذا القانون الذي يوحد الجهود ويوازن بين حماية الدولة وحقوق مواطنيها .
١٠ ديسمبر ٢٠٢٥م



