✍️ د. سامح فوزي
ثلاثة أيام قضاها وفد المجتمع المدنى المصرى برئاسة السفير محمد العرابى فى الخرطوم، أجرى خلالها حوارات مكثفة مع أطياف القوى السياسية، واستمع خلالها لتحليلات مختلفة للموقف الراهن، ورؤى متنوعة للعبور الآمن إلى المستقبل. السمة الغالبة على هذه الحوارات أنها تعبر عن تنوع لا يبرح نفس المكان. والسبب فى ذلك لا يعود إلى نقص الحيوية، فهى هادرة تفيض مثل مياه النيل، ولكن لأن مساجلات المرحلة الانتقالية، متشابهة، وتنتظر الاتفاق حولها.
العنوان الأساسى الذى يلخص المشهد العام هو البحث عن التوافق السياسى، حيث ثبت من تجارب التحول الديمقراطى شرقا وغربا أن اتفاق أطراف عديدة على تغيير نظام حكم، لا يعنى بالضرورة أن لديها تصورًا محل توافق، تجاه نظام الحكم البديل. هنا تكمن إشكالية المرحلة الانتقالية، ويٌفتح الباب على مصراعيه أمام الخلافات. تتعدد الرؤى، ويرتفع سقف الطموحات، وتتغير خريطة الأوزان النسبية، وتسعى القوى المختلفة إلى صياغة المرحلة الانتقالية بما يضمن لها موقعًا متميزا على الخريطة الجديدة، فى الوقت الذى تسعى فيه عناصر النظام القديم إلى إعادة تقديم نفسها، مستفيدة من تراكم قدراتها المالية والاتصالية وقواعدها الشعبية.
يعنى التوافق السياسى الاتفاق على قواعد جديدة للعبة السياسية، تضمن تلبية طموحات قطاعات عريضة من الشعب فى التغيير من ناحية، والحيلولة دون إعادة انتاج سياسات النظام السابق من ناحية أخرى. يمكن فى ضوء هذين الهدفين تصميم هندسة سياسية للمرحلة الانتقالية تقود إلى نظام سياسى جديد. هناك عدد من القضايا يمكن التوقف أمامها فى ضوء الحوار مع القوى والفصائل السودانية. أولا: القوى السياسية، التى عانت فى ظل نظام جبهة الانقاذ، تحتاج إلى بناء توافقات فيما بينها، لاسيما فى ضوء التزاحم بين قوى تقليدية وأخرى حديثة، ويمثل الشباب عنوانًا مهما فى هذه المرحلة، إذ لديهم مطالب مشروعة فى التغيير والحرية، لكنهم يحتاجون إلى استيعاب طاقاتهم فى سياق من العمل المؤسسي.
ثانيا: يصعب الاستغناء عن الشراكة بين المكونين العسكرى والمدنى فى المرحلة الانتقالية، وهناك من قوى المعارضة من ترى الآن أن المكون العسكرى ضرورى فى هذه الفترة، وتُعد القوات المسلحة هى المؤسسة النظامية المتماسكة التى تحافظ على الدولة السودانية فى ظل سياق محلى وإقليمى يتسم بالسيولة، وتعلو فيه عوامل التبعثر والانقسام، وتزداد فيه المخاطر.
ثالثا:إطلاق حوار وطنى للاتفاق حول عدد من القضايا الأساسية مثل الوثيقة الدستورية لسنة 2019 المعدلة عام 2020، وتشكيل حكومة جديدة، واتخاذ خطوات لبناء الثقة وتهيئة الاجواء العامة التى تطالب بها القوى السياسية مثل قضايا المعتقلين والطوارئ، والحريات وغيرها، والسعى إلى توحيد القوى المسلحة تحت لواء الجيش السودانى، وتفعيل اتفاق جوبا للسلام، وتوسيع أرجاء عملية السلام والمصالحة، وإطلاق نقاش موسع حول الدستور، واجراء الانتخابات العامة، بما فى ذلك بحث عودة النازحين والمهجرين، والنظام الانتخابى الملائم لضمان تمثيل أوسع لأطياف المجتمع السوداني.
رابعا:يُعد التوافق السياسى أساسًا لتحسين الأوضاع الاقتصادية، وإطلاق عجلة التنمية. حيث تشهد السودان أزمات اقتصادية شديدة تتمثل فى تراجع الايرادات العامة، وضعف النقد الاجنبى، وزيادة تكلفة فاتورة الغذاء والطاقة نتيجة المتغيرات الدولية، والارتفاع الشديد فى الاسعار، وانفلات التضخم، وتفاقم عجز الميزان التجارى، وتوقف المساعدات الدولية، وهى قضايا مُلحة، وذات وطأة شديدة على تماسك واستقرار مجتمع يقف على أعتاب مخاطر شديدة.
خامسا: بناء الدولة الديمقراطية لا يقتصر على الترتيبات السياسية، ولكن يتطلب كذلك بناء مؤسسات إدارية فاعلة تتيح إفادة أفضل من الموارد، مما يستلزم إعداد وتدريب قيادات شابة على الإدارة، واكتساب المهارات السياسية اللازمة، وتولى المواقع العامة، والعبور من الشارع، محل التظاهر والاحتجاج، إلى المؤسسات أداة الإدارة والتغيير.
هذه بعض القضايا التى تتصل بالوضع الراهن فى السودان، ولكنها – فى الواقع- تمثل نموذجًا تكرر كثيرا فى الدول التى انتقلت من نظام لآخر من بوابة الحراك الشعبي.
• نقلا عن “الاهرام” المصرية