
في عام ١٨٩٠ نشر الكاتب الإيرلندي أوسكار وايلد روايته الشهيرة “صورة دوريان جراي”، وهي واحدة من أكثر الأعمال الأدبية التي تناولت فكرة الازدواج الأخلاقي والانفصال بين المظهر والجوهر.
تحكي الرواية، باختصار، قصة شاب شديد الوسامة يُدعى “دوريان جراي”، يُرسم له بورتريه يعكس جماله الآسر. وتحت تأثير أفكار فاسدة عن اللذة والسلطة والخلود، يتمنى دوريان أن تبقى صورته شابة إلى الأبد، بينما تتحمل اللوحة وحدها آثار الزمن والفساد الأخلاقي. يتحقق التمني: يظل دوريان شابًا جميلًا مهما ارتكب من خطايا، بينما تتشوه صورته المخفية، وتتحول إلى مرآة حقيقية لروحه المتعفنة.
لم تكن الرواية عن الجمال بقدر ما كانت عن الهروب من المحاسبة. فكل جريمة، وكل خيانة، وكل انحراف أخلاقي لا يترك أثره على وجه دوريان، بل على الصورة التي عُزلت في مكان قصيّ عن العيون، بعيدًا عن المجتمع. ومع الوقت، يصبح البورتريه قبيحًا إلى حد الرعب، فيما يزداد صاحبه أناقة ونفوذًا ووجاهة اجتماعية.
هذه الفكرة الأدبية، التي بدت في زمنها خيالًا فلسفيًا، تحولت في عالم السياسة المعاصر إلى نموذج واقعي يتكرر. وهنا يصبح من المشروع – بل من الضروري – أن نسأل:
ألا يشبه محمد حمدان دقلو، قائد مليشيا الدعم السريع، دوريان جراي أكثر مما نتصور؟
حميدتي، مثل دوريان، صُنع له منذ عام ٢٠١٩ بورتريه رسم بعناية: صورة “رجل الدولة”، و”الشريك في السلام”، و”الفاعل الإقليمي”، و”رجل الاستقرار”. هذه الصورة لم تُرسم بريشة فنان، بل بأموال، وعلاقات عامة، ومنصات إعلامية، ودعم سياسي إقليمي.
في المقابل، تُركت الصورة الحقيقية – القتل الجماعي، والاغتصاب، والنهب، كما وثقت تقارير منظمات حقوقية دولية وشهادات ناجين من دارفور والجنينة، وتدمير الدولة – في الهامش المنسي للوعي لا للجغرافيا: في الخرطوم، والفاشر، والجنينة، ونيالا.
دوريان جراي لم يكن شريرًا بالفطرة؛ لكنه وجد من يوسوس له بأن الجمال أهم من الأخلاق، وبأن المظهر يكفي لصناعة الحقيقة.
حميدتي بدوره لم يصعد وحده. وجد من أقنعه – صراحة أو ضمنًا – بأن الوظيفة السياسية والرتبة العسكرية تبرر كل شيء، وأن السيطرة على الذهب والسلاح تسبق أي اعتبار إنساني، وأن الجرائم يمكن إعادة تدويرها سياسيًا متى ما اقتضت المصالح.
في رواية وايلد، كان البورتريه هو الضمير.
وفي حالة حميدتي، فإن الضمير هو السودان نفسه: دولة تُنتهك، ومجتمع يُمزَّق، وتاريخ يُشوَّه، بينما يخرج حميدتي بخطابات “سياسية” ناعمة، يتحدث فيها عن المستقبل والديمقراطية وكأن الخراب محجوب خلف ستار كثيف.
لكن الأخطر في القصة ليس دوريان وحده، بل أولئك الذين سمحوا له بالاستمرار.
في الرواية، كان المجتمع الإنجليزي الراقي يعرف – أو يشتبه – في فساد دوريان، لكنه اختار الصمت، لأنه وسيم، ومفيد، و”لا يسبب إزعاجًا مباشرًا”. وهكذا تفعل قوى إقليمية اليوم.
الدعم الإماراتي لحميدتي لا يمكن فهمه خارج هذا الإطار: تجميل القبح حين يخدم المصالح، كما أشارت تقارير أممية وصحفية موثقة حول تمويل الذهب والسلاح. فالإمارات، بوصفها فاعلًا إقليميًا، لم تدعم مشروع دولة في السودان، بل دعمت “صورة” يمكن التحكم فيها: مليشيا بلا مؤسسات، قائد بلا مساءلة، ومليشيا بلا وطن. تمامًا كما فضّل دوريان لوحة تتحمل التشوه بدلًا عنه، فضّلت بعض العواصم أن يتحمل السودان كلفة الدم، بينما تُحفظ الواجهات الدبلوماسية مصقولة.
لكن رواية “دوريان جراي” لا تنتهي بانتصار الوهم.
في لحظة حاسمة، يواجه دوريان صورته الحقيقية، ويقرر تدميرها. وما إن يطعن البورتريه، حتى يُعثر عليه ميتًا، عجوزًا، قبيحًا، بينما تعود الصورة إلى جمالها الأول. الرسالة واضحة: لا يمكن فصل الإنسان عن أفعاله إلى الأبد.
السياسة، مثل الأدب، تعرف هذه القاعدة جيدًا.
قد تنجح المليشيا في تأجيل المحاسبة، وقد ينجح الداعمون في تغليف الجرائم بخطاب المصالح، لكن البورتريه – أي الحقيقة – لا يموت. هو فقط ينتظر اللحظة التي يُسحب فيها إلى الضوء.
حميدتي ليس استثناءً، بل نموذجًا.
ونهايات النماذج المتشابهة معروفة: حين تسقط الأقنعة، لا يبقى من “الشباب السياسي” شيء، وتظهر الشيخوخة الأخلاقية دفعة واحدة. أما داعموه، فسيكتشفون فى الوقت بدل الضائع أن الاستثمار في القبح لا يصنع استقرارًا، بل يؤجل الانفجار.
وفي النهاية، كما انهار دوريان جراي تحت وطأة صورته الحقيقية، فإن كل من يراهن على إخفاء القبح سياسيًا سيواجه يومًا حساب التاريخ.
والشعب السوداني لن ينتظر طويلًا.
وهكذا، يذكّرنا أوسكار وايلد – بعد أكثر من قرن – بأن أخطر ما في السلطة ليس الشر، بل القدرة على إخفائه مؤقتًا.
لكن المؤقت، في التاريخ، لا يدوم.



