أكتب هذا المقال عن حمدوك بعد أن خرج من دائرة التوقعات بل صار النقاش حول “من هو رئيس الوزراء المقبل؟”، وللغرابة هذا هو المقال الثاني عن الرجل وهو خارج أي موقع في السودان، وبين المقالين ثمان سنوات، فقد كان الأول في يناير 2014 بعنوان فقرات من سيرة د. عبد الله حمدوك، وكان باللغة الإنجليزية في صحيفة سودان فيشن السودانية، وقلت فيه أن هذا الشخص يستحق أن يكون يوما ما من صانعي القرار في السودان. في ذلك التوقيت لم تكن هنالك علاقة بين حمدوك والنظام السابق، وكان هذا سابقا بزمن على ترشيحه لمقعد سكرتارية الكوميسا وصلته بحكومة البشير التي أفضت إلى إعلانهم تعيينه وزيرا للمالية في 2018، كان مقالا من وحي مشاهداتي وتغطياتي لأداءه في منصات الحديث وصنع القرار في الحراك الأفريقي، وبعض أكواب القهوة في مناقشات جانبية.
ليس بيني وبين الرجل إلا كلام نزيه وشريف ولا صلة له بأي شكل من أشكال الإستفادة. وباستثناء تواصل محدود للغاية معه عبر رسائل واتساب – قبل أداءه للقسم – نشرتها في صفحتي على الفيسبوك حول “أربع مشكلات” ستواجهه، لا يوجد أي تواصل إبان فترته في الحكم إلا عبر أصدقاء مشتركين، ولا أعلم هل كانت تصله الرسائل بدقة أم لا؟ في مرة واحدة يتيمة، علمت أنها وصلته، وأنه طلب إجابة على أمر ما، فقمت بنشر عمود في الأمر بدون ذكر أي خلفية للنقاش، بل وتفاديت تماما طيلة هذه الفترة زيارة أو مناقشة مباشرة مع كبير مستشاريه الشيخ خضر والذي يقع بيته على ثمانية أبيات مني وبيننا معرفة واحترام؛ ومن الطرائف قلت لقريبه وهو صديقي أنا غير ملزم بزيارته لانه مرق من الجار السابع؛ ولأنهم لا يدركون حاليا قيمة النصح الذي يمكن ان يجدوه مني.
لدي اسلوب بسيط للغاية في تحديد المحطات الأكبر في تاريخ أي مسئول في السودان، وهي تختلف عن القياسات المحلية تماما، وتختلف عن مؤشرات المدح والشتم في الأسافير، أو حتى سخط الشارع، إذ أنني أعتبرها “محطة دولية” إذا تلقيت فيها اتصالا هاتفيا من شخصيات ذات وزن سياسي دولي أوناشطين غربيين اشتهروا بأمر السودان، أوملاحقات واستيضاحات من صحفيين دوليين أنا أعلم علم اليقين أن لديهم أصدقاء كثر ربما في الحكومة نفسها وفي أحزابها، هنالك فرق كبير للغاية بين أن يسألك إعلامي كبير من رأي للنشر وبين أن تشعر أنه مضطرب ويرغب في التحقق من رأي جديد توصل إليه بعد تفكير وتقصي. أن لم تكن هنالك هزة وارتباك كبير لما اتسعت دائرة المشاورة لشخصيات من خارج دائرة “المصادر والأدوات” التقليدية، “باختصار في ناس ما برجعوا لينا إلا في كفوة!”
المهم، هنالك ثلاث محطات شعرت بأنها كانت نقاط تحول كبيرة في الفترة الإنتقالية وفي أداء رئيس الوزراء السابق د. عبد الله حمدوك، وليس من بينها ما يروق للناس الترويج له أنه انجازات ضخمة مثل الرفع من قائمة الإرهاب، ولا اخفاقات شنيعة مثل وثيقة الاتحاد الأوربي عن مرتبات لمكتب حمدوك، والتي تربعت على عرش المقروئية في مقالات “ذا براون لاند” لستة أشهر فوق كل المقالات عن السودان.
المحطة الأولى: إستقالات الوزراء وإعفاء وزير الصحة د. أكرم التوم تحديدا، في يوليو 2020.
لم يكن الصراع بين أكرم وقطاع التصنيع والإستيراد الدوائي، والقطاع العلاجي الخاص معركة سوادنية داخلية البتة. في السياسة .. كانت هنالك مخاوف مسبقة من تأسيس دولة إشتراكية في السودان على أنقاض دولة إسلامية، وفي الإقتصاد .. كان هنالك مراقبين يعلمون مستوى السودان الحقيقي في هذين القطاعين، وربما نحن كسودانيين نستهين بقدرات بلادنا في التصنيع عموما وفي هذين القطاعين تحديدا ولكن الحقيقة أن مقارنة السودان بكل الجوار الأفريقي والدول ذات الطبيعة والمشكلات المشابهة للسودان جعلت البعض يتابع هذا الملف ويرصد التميز النوعي للسودان. بالنسبة لأمريكا، أعتقد أن السودان أثار الإنتباه منذ تدمير بيل كلنتون لمصنع الشفاء للأدوية وإقرار الجانب الأمريكي أنه كان قرارا خطأ، وثبت لاحقا أنه مجرد هروب للأمام من فضيحة داخلية للرئيس كلنتون.
أيضا تزامن الصراع مع أكرم مع اندلاع الكرونا في العالم، وبحثت العديد من الدوائر عن مناطق الدواء والإعلاج الأفضل في أفريقيا، وعن مستوى النظم الصحية، ونحن في السودان، (ولا جابين خبر بما عندنا)، ربما أيضا سبب الإنتباه أنه أول شرخ داخلي في الحكومة الوليدة، التي يراهن عليها كثير من الغربيين حينها.
النتيجة كانت، أن عدم تفهم أكرم لقضايا ومشكلات هذا القطاع، وإصراره على إجبار المصنعين والمستوردين على تثبيت أسعار سلعة بينما ارتفعت تكلفة إنتاجها 500%، جعل الكثيرين يراقبون كيف يخرج حمدوك من هذه الورطة؟ لا سيما وأن هنالك انتماء تاريخي لحمدوك للشيوعيين والإشتراكيين الذين يمثلهم أكرم، بل وزاد على ذلك أن أكرم لديه شخصية كارزمية وعمل ميداني، ولكنه للأسف كان على الجانب الخطأ من التاريخ والإقتصاد. بالنسبة لبعض الدوائر “المصمتة” أن أكرم لو انتصر سيكون هو رئيس الوزراء الفعلي وليس حمدوك، وهذا تعبير جائني من أحد الشخصيات ذات الوزن.
اختلف الناس حول إدارة حمدوك للأزمة وأنا لست من ممتدحي طريقته في إدارة الأزمة، وذلك لسبب بسيط للغاية، وهو أنه كان يجب أن يتوقعها، ويدخل للمنصب بأجندة واضحة ومنحازة للمنتجين السودانيين الناجحين، ولكنه أحسن الظن بالصناديق الدولية وأصدقاء السودان العرب، وأحسن الظن أيضا بالأحزاب والقوى السياسية، ولم يعرف “صليحه من عدوه”. في النهاية، أجبر حمدوك على المعركة وحسمها – ببرود وهدوء – لصالح القطاع الخاص وأطاح بأكرم من المشهد في يوليو 2020. ربما يشفع للبعض أن يقدم مرافعات عن حمدوك أن التوقيت حينها كان ثوريا للغاية وأن أحزاب الحرية والتغيير كانت في أوج عنفوانها، ولكنني لست من هذا البعض.
هنالك ملحق لهذه المحطة لأن معظم الشخصيات التي تواصلت معي فيها كانت مشتركة، وهي أصلا تتابع قضية “الهوية الإقتصادية” للسودان في كل مراحلها ولكن ازداد تركيزها مرة أخرى
في تعويم الدولار في فبراير 2021، إذ لم يحظ حمدوك باهتمام غربي بل وأفريقي (نوعي) مثلما حصده في هذه الخطوة، نعم صحيح هنالك انتقادات تقليدية لصندوق النقد الدولي ووصفة إعادة هيكلة الإقتصاد، بل إن أصدقاء أفريقيا من اليسار الأمريكي يصابون بالإحباط كلما أذعنت دولة أفريقية لهذه الوصفة، ودار بيني وبينهم جدل كثيف وبالذات مع كاتب أمريكي كان معجبا بتجربة ميليس زيناوي في الضغط على مؤسسات برايتون وودز والحصول على منح وقروض دون تنفيذ الأجندة كاملة وكان يتوقع أن يكون حمدوك مثله، لكن الغالب على من تواصل معي أنهم يعتبرونها خطوة تأخرت كثيرا، وبعضهم قدم مدحا مباشرا لحمدوك ووزير المالية جبريل إبراهيم، وتابعوا بدقة استجابة الإقتصاد السوداني للخطوة وإستقرار سعر الصرف بعدها.
المحطة الثانية: تجميد قرار تعديل المناهج واستقالة د. عمر القراي في مارس 2021.
هذه المحطة أخرجت لي العقارب من تحت طوب الأرض، وبسبب إنتمائي للتوجه الإسلامي والذي يعرفه الكثيرون من أصدقائي، كان هاتفي وبريدي الإلكتروني يحتشد برسائل من كل أطراف الدنيا، وظننتها في الأول تواصلا مع شخصي وحول موقفي، واتضح لي لاحقا أنهم يقومون بحملة تقصي واسعة. أصلا المجتمع الغربي منقسم حول السودان وحول التعامل مع الإسلاميين فيه، والغالب على أوربا تحديدا دعم التيار الليبرالي، والإعتقاد أن التغيير في السودان إذا لم يشمل تحويل السودان من اليمين والمحافظة والتوجه الإسلامي إلى الليبرالية فإنه لن تتوفر فرصة أخرى لهذا الأمر. أما أمريكا فالأمر فيها مختلف، لأن التعويل الأمريكي يغلب عليه دائما – بعد مخاض داخلي – الإعتماد على المكونات الصلبة في الدولة وهي القوات النظامية والحركات المسلحة والكتل السياسية والجهوية المتماسكة، وينحصر الإعتماد على المكونات المرنة وهي منظمات المجتمع المدني ومجموعات الناشطين في أمرين لا ثالث لهما، وهما أداة أو كرباج لتطويع الجيش وقادته والمكونات الصلبة وحظرها ومعاقبتها عبر تقارير وحملات، أو ضبط لغة الخطاب الديبلوماسي الرسمي وفق مطالب وشعارات هذه القوى. خلاف هذا لا يوجد تعويل أمريكي على المكونات المرنة.
في خضم هذا الإنقسام الدولي حول معركة المناهج كان هنالك من يرى أن الإطاحة بالقراي “الإعدام الثاني لمحمود محمود طه”، كما عبر لي البعض، وتسبب نقاشي معه في تأجيل الكتابة تحت هذا العنوان أو تعديله، وهنالك من يرى أن القراي وربما حمدوك دخلا في معركة مبكرة وسابقة لأوانها وستعرض التغيير الليبرالي المتدرج إلى خطر ماحق وتمنح الإسلاميين مصدرا إضافيا للقوة وتؤدي إلى تحريك الصوفية نحو الإسلام السياسي. من بين خمس شخصيات كبيرة تواصلت معي كان هنالك اثنين يؤكدون أن حمدوك لم يكن لديه خيار آخر سوى التخلص من القراي والتعامل مع التيار الإسلامي، والغريب أنهم رددوا هذا الحديث بغير أسى ولا حزن. المهم أن غبار المعركة انقشع وتأكد لدوائر دولية عديدة أن التغيير الليبرالي في السودان غير ناضج وغير مقبول في الرأي العام وأجندته مشحونة بالصراعات الداخلية بين قحت ذاتها.
المحطة الثالثة: إتفاق البرهان – حمدوك نوفمبر 2021.
من طرائف هذه المحطة أنه كانت إجابتي واحدة منذ بدايتها، أن الرجل سيعود، لأنه لا يمكن أن يخرج بطريقة التمرد وهذا لا يتناسب مع منهجه في الحياة والمعايير المهنية التي تخصه لما بعد الإنتقال، ولا يمكن أيضا أن يخرجه المكون العسكري ظلما وبطشا لأنهم يتضررون بذلك جدا، لا بد أن يتفقا على “فراق بالمعروف”.
أوهام البعض حينها في تحول حمدوك إلى “جيفارا” سوداني أو انحياز الجيش له والإطاحة بالبرهان، لم تكن أوهام محلية فقط، ولكنني سمعتها من ناشطين غربيين، أما المحللين والسياسيين المحترفين في بلادهم فانشغلوا بالترشيحات البديلة التي ظهرت والتنقيب في السير الذاتية لهم، وبالذات كامل إدريس عند بعض الاوربيين، وهنود كدوف لدى بعض الأمريكان. كنت باستمرار أردد “ما بين البرهان وحمدوك، لا يعرفه – من البشر – إلا البرهان وحمدوك”، لا غربيين ولا عرب ولأ أفارقة، فقد استطاع الرجلان إبتكار آليات تعامل مع الأزمات اكثر من أي قطبين في تاريخ السودان، وعدد من أصدقائي في السودان “غالطوني” بشدة في هذا الأمر.
خلاصة المحطات الثلاث والتي يجب أن يضعها أي قيادي سوداني “حلقا في إذنه” أن مصارعة القطاع الخاص او سياسة التحرير الإقتصادي هي صراع مع الخارج ووصفة سقوط سريع، وأن التغيير الليبرالي غير الناضج عبارة عن هدية غالية الثمن للإسلاميين، وأن تجاوز ومعاداة المؤسسة العسكرية في أي نقلة سياسية عبارة أن انتحار سياسي.
المحطة الرابعة لحمدوك: ها هنا سؤال؟ هل انتهى دور حمدوك تماما؟ هل يرغب فيه أهل الداخل أو الخارج؟ لا توجد لدي إجابة حاليا.
سؤال مهم أيضا، لماذا فشل حمدوك في الإستمرار؟ رأيي الشخصي ظهر في بوست عن أربع نقاط قدمتها له قبل أداء القسم في أغسطس 2019، وأجاب عليها – بمجاملة – في راسلة واتس أنه يتفق معي. اتضح لاحقا أن حمدوك استنفد كل الأدوات التصالحية والوفاقية في منهجه، وأنه لم يكن شخصا سيئا، لكن أضر به “العشم الكاذب” في أصدقاء السودان وأحزاب قحت.
هذا رأيي الآن، وربما سيكتب التاريخ بعد عشر سنوات أنه هذه المرحلة لم تكن تتطلب سوى شخصية وفاقية باردة وغير حاسمة تعبر بالأوضاع المضطربة لترسخ النقاط السابقة التي ذكرتها، وبعدها تأتي الشخصيات المحترفة لتواصل.
مهما يكن فإنني أستحسن أن يكون هنالك دور للرجل في رئاسة برلمان إنتقالي (لو وجد!) أو دور في الحوار الوطني ومائدته المستديرة، أو في موقع إشرافي على التعاون الإقتصادي الدولي عبر عضوية في مجلس السيادة.
ثبت تماما أن مصارعة القطاع الخاص وسياسة التحرير الإقتصادي تطيح بخصومها في أيام معدودة، وأن استبعاد أي دور للتوجه الإسلامي في السودان والتعويل على تغيير ليبرالي سريع، هو أيضا خيار فاشل. كما ثبت أيضا أن الحديث عن عودة العسكر للثكنات يصلح أن يكون هتافا في الشارع وسقفا للمطالب ولكن تحقيقه يحتاج على الأقل إلى وفاق سياسي وإستقرار حكومة ديموقراطية منتخبة على الأقل لدورتين برلمانيتين ناجحتين وهو أمر يحتاج على الأقل لعشر سنوات.
أيضا أجدد التنبيه، أنني وإن كنت من المتحمسين للتحرير الإقتصادي إلا أنه لدي بعض الإنتقادات لتطبيق وصفات برايتون وودز كاملة، وفي ذات الوقت لا أعتقد أن الدول التي تناهضها دون إجماع وطني محلي على إقتصاد بديل ستنجح. وعليه في حالة السودان في هذا التوقيت الخيار المر هو تطبيقها والإجتهاد في تخفيض آثارها.