
كتب المحرر الدبلوماسي
في لقاء مع مؤيدي قحط من أعضاء الجالية السودانية بجنوب أفريقيا، الأسبوع الماضي، قال حمدوك :
” لكن في يعني محاولة متعمدة لشيطنة الإمارات، كأن الإمارات دي عندها
boots on the ground
في السودان”، يعني أحذية عسكرية ” أباويت بلغة العساكر” علي الأرض، كناية عن الجنود المشاة.
كان ذلك من اللقاءات النادرة لحمدوك، بحضور يذكر من السودانيين، التي يتحدث فيها بمثل هذه الجرأة والوضوح، اللذين لا يحسد عليهما، وهو يمارس دوره المرسوم له في الدفاع عن الإمارات حيث يقيم ويدير مركزه ” المركز الافريقى للتنمية والاستثمار” الممول من حكومتها. وقد وقع اتفاقا مع السيدة ابتسام الكتبي، المقربة من عائلة أبوظبي الحاكمة مديرة مركز الإمارات للسياسات. وهي أول مسؤول إماراتي تقر علنا بتدخل بلادها في الحرب بالسودان، في بودكاست مشهور في أغسطس الماضي، وبررت التدخل بحماية استثمارات الإمارات في السودان، واحتواء آثار الربيع العربي.
في نفس اللقاء كذلك تحدث حمدوك عن إقامته بأبو ظبي منذ استقالته، لكنه لم يشرح لماذا اختارها مقرا لمركزه، وهو يعني بإفريقيا، بدلا من أديس أبابا، أو نيروبي، أو جوهانسبرج، أو أي عاصمة أفريقية أخري كما هو الأمر المنطقي؟

صورة لحمدوك يوقع اتفاقامع ابتسام الكتبي مديرة مركز الإمارات للدراسات في نوفمبر ٢٠٢٣
عقيدة البوت الأجنبي:
وردت عبارة boots on the ground نفسها في حديث حمدوك في ندوة تشاتام هاوس يوم 31 أكتوبر الماضي التي حاصرتها الجماهير، عندما دعا لإرسال قوات أجنبية للسودان، في سياق التشديد على ضرورة نشر القوات في كل مناطق السودان وبأعداد مؤثرة .
لذلك فإن تكرار حمدوك لذات العبارة، حتي وإن كان السياق مختلفا، مؤشر على عقيدته في القوات الأجنبية سواء باسم الأمم المتحدة أو حتى من الإمارات للتصدي للقوات المسلحة.
لقد كان أول قرارات حمدوك عندما اختير رئيسا لمجلس الوزراء الانتقالي في سبتمبر 2019 هو استبقاء قوات يوناميد التي كان مقررا أن تغادر السودان بنهاية ذلك العام، وفق اتفاق السودان مع مجلس الأمن. إلا أن حمدوك طلب بعد أسابيع قليلة عقب أدائه القسم من الأمين العام للأمم المتحدة الإبقاء عليها. ولم تكن وزيرة الخارجية وقتها تعلم ذلك مع إنها رافقت حمدوك إلى نيويورك حيث التقي غوتيريس، حتى نقل لها المعلومة السفير البريطاني في أول لقاء له بها، وطلب منها كتابة خطاب رسمي لمجلس الأمن بهذا المضمون. وقد فعلت. المفارقة أن وزارة الخارجية وقتها كانت تستضيف اجتماع الآلية الثلاثية، السودان؛ الأمم المتحدة؛ والإتحاد الأفريقي لإنهاء جميع ترتيبات مغادرة القوات، ليأتي طلب استبقائها مفاجأة صاعقة للمفاوضين باسم الحكومة، وهم من كل الأجهزة المعنية.
ولم تفق تلك الأجهزة من هذه المفاجأة حتى داهمتها واحدة أكبر منها، عندما خاطب حمدوك بداية العام 2020 الأمم المتحدة سرا طالبا نشر بعثة للأمم المتحدة في كل أرجاء البلاد، على أن تتضمن مكونا قويا لحفظ السلام ( تقرأ قوات دولية). ولم يكن هناك مفر من تدخل مجلس السيادة بخطاب للأمم المتحدة يستدرك فيه بعض ما سعى حمدوك لتوريط البلاد فيه، ثم خطاب خطاب ثالث، بإلغاء خطاب حمدوك الأول وطلب إزالته من سجلات الأمم المتحدة، في ظل مراوغة حكومة حمدوك في إيصال خطاب مجلس السيادة الاول. ومع ذلك تورط السودان في بعثة يونيتامس وفولكر، وكانا من أسباب نشوب الحرب، واقتضى التخلص منهما جهدا خارقا من الدبلوماسية السودانية حتي تحقق في ديسمبر 2023 بعد 8 شهور من الحرب المدمرة التي شنتها المليشيا وراعيتها علي السودانيين بتواطؤ مكشوف من قيادة البعثة.
قوات الإمارات في أرض السودان:
لكن هل فعلا لا تمتلك الإمارات قوات على الأرض تقاتل مع المليشيا؟ أم أنها ضحية “شيطنة متعمدة” كما دافع عنها حمدوك؟
هل تحتاج أبوظبي لإرسال جنود إماراتيين من مواطني الدولة الأصليين، الذين لا يبلغ عددهم مليون نسمة، للقتال السودان، أم أن لديها أساليبها المعروفة التي اعتمدتها في حرب اليمن وليبيا، ومناطق أخرى اعتمادا علي مجنسين في قواتها المسلحة وأجهزتها الأمنية، بما في ذلك “الشركات” الأمنية المتخصصة؟
بهذا الفهم فإن الإمارات لديها قوات على الارض فعلا في السودان.
وكمثال واحد لتأكيد ذلك فقد نقلت صحيفة نيويورك تايمز بتاريخ 21 سبتمبر 2024 عن مذكرة سرية من سفير الاتحاد الأوروبي بالسودان، إيدان اوهارا، في فبراير من نفس العام أن هناك حوالي 200 ألف من المرتزقة الأجانب يقاتلون إلى جانب المليشيا. وهذا يعني أن حجم القوات التابعة للإمارات تمويلا وتسليحا وتوجيها، ممن تقاتل إلى جانب المليشيا في السودان هو ثلاث أضعاف جيشها الرسمي، البالغ 65 ألف فرد. ويكفي نموذج المرتزقة من كولمبيا في صفوف المليشيا التي اعترفت حكومتها بمشاركتهم، وكشفت الصحافة الكولومبية الاستقصائية أن هؤلاء يجري تجنيدهم في الإمارات تحت غطاء العمل في شركات امنية ثم ينقلون إلى ليبيا والسودان.
جاء ذلك المقال، وهو تحقيق استقصائي مثير مزود بصور الأقمار الصناعية، تحت عنوان:
” كيف استخدمت حليفة الولايات المتحدة المساعدات غطاء للحرب”.
ماهو اخطر من المشاة:
وشرح كاتباه كيف تستخدم الإمارت المسيرات الاستراتيجية وينق لونق Wing Loong التي تطلقها من قاعدة عسكرية أقامتها في أم جرس، تحت غطاء أنها مستشفى ميداني، لتوجيه عمليات المليشيا وتوفير المعلومات الاستخبارية، والاستطلاع وحماية متحركات المليشيا. وذكرا أن مدى هذه المسيرات هو الف ميل وبإمكانها الطيران لمدة 32 ساعة متواصلة. وكشفا أن تلك المسيرات يجري توجيهها عن بعد من داخل الإمارات بعد إطلاقها من قاعدة أم جرس. وكما هو معلوم فقد استخدمت هذه المسيرات لاحقا، خاصة خلال الشهر الماضي، في مهاجمة بورتسودان، وعدد من المواقع في شرق وشمال السودان. ولهذا حملت الحكومة السودانية الإمارات
ويؤكد تقرير مرصد مراقبة الإبادة الجماعية الذي نشرته صحيفة جارديان البريطانية بتاريخ 24 يوليو 2024 أن “الإمارات تزود الدعم السريع بالأسلحة والقوات”.
ووثقت التحقيقات الاستقصائية لقناة فرنسا 24 في أبريل الماضي بعنوان ” قنابل أوروبية في السودان” الأساليب والشبكات التي تستخدمها الإمارات لتزويد المليشيا بالأسلحة الأوروبية المتقدمة والمرتزقة، وكانت الحلقة الثالثة بعنوان: “طريق المرتزقة من الإمارات للسودان.
تقارير دولية متوترة:
هذه فقط ثلاثة نماذج من عشرات وربما المئات مما نشرته الصحافة الدولية و تضمنته تقارير الأمم المتحدة والمنظمات المتخصصة والتصريحات الرسمية من كبر المسؤولين والبرلمانيين الغربيين حول دور الإمارات في حرب السودان باعتباره اهم عوامل إطالتها، مما يضيق المجال لذكر مجرد العناوين، وادناه بعض العناوين المهمة:
▪️التقرير الشهير لفريق خبراء الأمم المتحدة المستقلين في يناير 2024 الذي أكد أن هناك أدلة موثوقة على أن الإمارات تزود مليشيا الجنجويد بالأسلحة.
▪️تصريحات ماركو روبيو وزير الخارجية الأمريكي في جلسة اعتماد تعيينه بالكونغرس يوم 15 يناير، إذ قال بالحرف ” إن الإمارات تدعم بشكل معلن كيانا يرتكب الإبادة الجماعية – في إشارة للدعم السريع-“.
▪️التصريحات والتحركات العديدة والمستمرة لأعضاء الكونغرس الأمريكي سارة جاكوب، وكريس فان هولين وآخرين والنائبين البريطانيين جيرمي كوربن وزارا سلطانة وعدد من نواب البرلمان الكندي.
▪️تقارير عدة لمختبر الأبحاث الإنسانية بجامعة ييل الأميركية، والذي اعتمدته الإدارة الأمريكية لمراقبة تنفيذ إعلان جدة، منها مثلا تقرير بتاريخ 13 ديسمبر 2024 عن نوع المدفعية الثقيلة اليت تستخدمها ميليشيا الجنجويد لمهاجمة معسكر زمزم حيث أكد أن الإمارات هي الدولة الوحيدة التي اشترت هذه المدفعية من الصين.
▪️تقارير منظمة العفو الدولية ومنها تقرير في نوفمبر 2024 حول تزويد الإمارات للمليشيا بمركبات نمر العسكرية الإماراتية بعد تزويدها بتكنولوجيا فرنسية متقدمة للحماية.
▪️مقال فصلية فورن افيرز Foreign 31 Affairs يوليو 2024 بعنوان
“حرب الإمارات السرية في السودان:
كيف يمكن لضغط المجتمع الدولي أن يوقف عنف الإبادة الجماعية” بقلم كل من جون بريندار قاست ( المختص في الشؤون الافريقية والمسؤول الأسبق بمجلس الأمن القومي الأمريكي ومجموعة الأزمات الدولية) وانطوني ليك (مستشار الأمن القومي للولايات المتحدة سابقا).
▪️تقرير مركز التقدم الأمريكي Center for American Progress، تحت عنوان ” كيف يمكن للكونغرس الأمريكي المساعدة في كبح دور الإمارات في الأزمة السودانية؟” بتاريخ 18 مارس 2025.
▪️عدة مقالات بصحيفة واشنطن بوست منها مثلا ” الإمارات تغذي الحرب المدمرة في السودان” بتاريخ 26 أكتوبر 2024، وافتتاحيتها بتاريخ 28 أكتوبر 2024 بعنوان ” بايدن يحتاج للضغط على الإمارات لإنهاء حرب السودان”.
▪️مقالات لا تحصى بالإصدارات المتخصصة مثل فورن بوليسي، إيكونوميست وميدل إيست آي وميدل إيست مونيتور، وأفريكا كونفيدنشيال، وحتي تقرير تشاتام هاوس، المعروف بدعمه لمجموعة حمدوك، الذي صدر في مارس الماضي عن أثر الذهب في الحرب الحالية، والذي أكد أن الإمارات هي صاحبة التأثير في صنع قرار بالمليشيا.
شيطنة ام تعتيم
في ضوء ذلك فإن السؤال ليس هو ما إذا كانت الإمارات تتعرض للشيطنة فيما يتعلق بدورها في الحرب، كما يزعم حمدوك وإنما لماذا يتجاهل الفاعلون الدوليون حقيقة أن هذه الحرب هي حرب الإمارات على السودانيين؟
لقد دفعت الإمارات تريليونات الدولار لإدارة ترمب لتغض الطرف عما تقوم به في السودان، وتنفق البلايين في الدول الغربية لحجب جرائمها في السودان. ومع ذلك تتزايد الأصوات الشجاعة من امثال عضوي الكونغرس الامريكي سارة جاكوب وفان هوليد والنائبة البريطانية الشابة زارا سلطانة وعشرات الصحفيين والكتاب الغربيين الذين لا يخافون قول الحق، رغم أساليب الترهيب التي تستخدمها الإمارات مع بعضهم، مثل ما حدث لأحد صحفيي جريدة جارديان البريطانية وأكاديمي بريطاني. جميع هؤلاء لا تربطهم بالسودان علاقة خاصة، وبعضهم لم يزره في حياته، ولا يحركهم سوي حس العدالة ورفض الظلم والعاطفة الأنسانية مع الضحايا.
بالمقابل فإن حمدوك، رضي لنفسه ان يكون محاميا للشيطان بتبرئته الإمارات من جرائمها في حق الشعب السوداني صاحب الفضل عليه في كل ما ناله من تعليم وتدريب حتي ابتعاثه لبريطانيا علي نفقة حكومة السودان. و قد استفاد من كل الحكومات المتعاقبة، وعلي رأسها حكومة الإنقاذ، والإسلاميين، حيث رشحته مرتين لمنصبين دوليين رفيعين، هما سكرتارية كوميسا، وإدارة اللجنة الاقتصادية لافريقيا، واجري الرئيس السابق البشير اتصالات هاتفية برصفائه الأفارقة وكتب لهم الر سائل دعما لترشيحه، لكنه فشل في المرتين فشلا ذريعا. يقبل حمدوك لنفسه ان يكون في خدمة من قتلوا عشرات الآلاف وانتهكو اعراض المئات ودمروا البني التحتية للبلاد ولا يزالون يطلقون المسيرات لتدمير محطات الكهرباء والمياه والمطارات والمستشفيات، ليحولوا حياة الشعب السوداني لحجيم ويسهمون في نشر الكوليرا والنزلات المعوية بسبب افتقاد الماء النظيف، عقابا له لأنه انتصر عليi المليشيا صنيعة الإمارات.
سيدخل حمدوك التاريخ كصاحب اضخم سجل من المخازي والسقطات الوطنية، علي قصر فترة بروزه في السياسة السودانية، منذ أن قدمه فيصل حسن إبراهيم نائب رئيس المؤتمر الوطني في اكتوبر ٢٠١٨ وزيرا للمالية، ليقدم لاحقا إعتذارا رقيقا عن عدم قبوله المنصب كما نشر وقتها.
قال المتنبئ يهجو احدهم:
أمينا وإخلافا وغدرا وخسة وجبنا اشخصا لحت لي ام مخازيا؟
” المين بفتح الميم وسكون الياء هو الكذب، والألف الأولي استفهامية”
أتراه كان يقصد شخصا غيره؟