الرواية الأولى

نروي لتعرف

حسين خوجلي - يكتب :

حكاية نقرأها مع القمة العربية الإسلامية بالدوحة قبل الجلسة الافتتاحية

حسين خوجلي

1
كانت البادية السودانية منتجة وزاهدة في التعامل مع الطبيعة والأشياء والناس، وكانت تجيد فلسفة البدائل في كل شيء. وقبل انتشار صالونات الحلاقة والحلاقين المتجولين في الأسواق والمصالح، كان الأهالي يقومون بحلاقة شعور أطفالهم على (الزيرو بالشيفرة)، ويدهن الرأس الصغير بزيت السمسم الطبيعي، حينها تجد النسمات طريقها إلى الدماغ بلا استئذان.
وكانت الأمهات اللائي يعجبن بشعر الأبناء العربي الأملس والغزير يجعلن في مركز الرأس ونواته العليا خصلة تسمى (القمبو) رمزًا للطفولة والبراءة والكثير من الغفلة المحببة والسذاجة. وعندما يبلغ الأطفال مبلغ الصبا كانوا يردون على الذين يحاولون استغفالهم بعبارة شهيرة: (إنت شايف في راسي دا قمبور؟) في تعليل لطيف بأن هذا الطفل قد انسرب في أودية العقلانية والرشد.
تذكرت هذه العادة الريفية اللطيفة العامرة بالذكريات حين سمعت بالتبريرات الساذجة التي أطلقها الرئيس دونالد ترامب وهو يتنصل في خبث ووضاعة عن الضربة الغادرة التي وجهها رفيق دربه السفاح بنيامين نتنياهو لدوحة العرب التي منحت أمريكا ما تريد وما لا تريد، وما تم التلويح به شيء قامت به نيابة عن أمريكا وصويحباتها. فقد عقدت الكثير من الاتفاقات لصالحها، وبذلت فيها من المال والجهد الكثير، واستغلت احترام الناس لها لتجيير كل هذه الأعمال الكبيرة لصالح العم سام الجاحد.
والأمثلة تسد الأفق وتسود الأوراق، بدءًا بالتصالح مع طالبان ثم الكنغو ورواندا، فبعد أن أكملت الدوحة الطيبة كل تعقيدات المصالحة الصعبة ذهبت بالرئيسين الأفريقيين للبيت الأبيض حيث أخذ ترامب العاطل عن الموهبة اللقطة التي لا يستحقها.

2
قطر التي ترعى ليل نهار المفاوضات المضنية ما بين غزة وإسرائيل لإيقاف عملية الإبادة والتصفية والتجويع لهذا الشعب الباسل المظلوم على حدقات أعين الغافلين وشاشات قنواتهم، صحيح أن جهد الدوحة والأمير هو الوقوف الملتزم مع قضية العرب والمسلمين المركزية وحفظًا لدماء الشعب الفلسطيني الذبيح المهدور منذ النكبة في 1948 حتى صدور هذا العدد. وفوق تلك الجراح النازفة فإن الدوحة تبذل كل طاقتها المادية والمعنوية لإعادة بعض الفضائل الأخلاقية لأمريكا التي فقدتها وهي تقف مع الباطل المطلق والقتلة والسفاحين والمجرمين، إمدادًا بالسلاح والدعم اللوجستي والفيتو اللعين. بل كان آخر لطائف الدوحة أنها أهدت لهذا الجاحد الأممي طائرة رئاسية بنصف مليار دولار، وما خفي كان أعظم.

3
خاب أمل دونالد ترامب، وخذلته إسرائيل، وطاش التدبير اللعين للجريمة. وتناسوا أن الخالق العظيم من فوق سبع سماوات قد حفظ الوفد الفلسطيني من سحق المقاتلات الأمريكية التي تستخدمها إسرائيل من الباطن في سقوط انتهازي مريع. لم يصدق أحد مرافعته الهزيلة، فقد قال المقاول المغامر إنه ما كان يعلم بالذي حدث، وإن المعلومة ما كانت بمكتبه بل كانت بالجيش، وإن نتنياهو لم يحادثه كفاحًا ومباشرة، وإن مصدره كان ويد كوف، حليف الظاهر والباطنية لإسرائيل وصديق نتنياهو القديم، الذي كان ينتظر لعشر دقائق قاتلة قادمة حتى يتأكد هذا الفاجر أن وفد التفاوض الفلسطيني قد قُضي عليه وهو يتدارس المقترح الأمريكي الأخير.

4
سخر كل العالم مما حدث منهم ومما حدث منا، وظل الجميع يبكون ويرسلون الأدمع مدارًا فوق الشفاه تبتسم في حيرة بلهاء. وتتساءل كل العواصم: إذا استطاع هذا السرب من القاذفات أن يضرب ويحرق ويدمر ويقتل ثم ينسحب في سلام، فما هي الفائدة من قاعدة العديد العسكرية التي تربض وترابط كالدمامل والجراح المتقيحة فوق جسد قطر العربية المسلمة الطاهرة؟
وإذا كان ذلك كذلك، فما فائدة الدفاع المشترك والأسلحة المخزونة بلا مهام التي اشتريناها بالبلايين من دم ثروة الأجيال القادمة؟ بل ما فائدة التريليونات الخليجية التي منحناها (روتشيلد الربوية) امتيازًا وابتزازًا دعمًا وإنقاذًا لاقتصاد واشنطن المنهار؟

تلك التريليونات التي يذهب ريعها لصالح الصهاينة، قاذفات ومقاتلات وقنابل عمياء تدك في سفالة بغداد وكابول وبيروت ودمشق والخرطوم وطهران والضفة الغربية وغزة وأخيرًا الدوحة، والقادمات الآنسات المرتجفات على الطريق ولو بعد حين.
بعد أن أصدر الباب العالي دونالد ترامب، مارشال الحرب الصليبية قبل الأخيرة، قرارًا خفيًا بتعيين نتنياهو أميرًا للمؤمنين وحاكمًا بأمره للعالم الإسلامي من طنجة إلى جاكرتا، والذي أصبح عاريًا بلا نصير؛ لا صلاح الدين له، ولا المعتصم، ولا محمد الفاتح، ولا الخليفة عبد الله الشهيد، ولا عرابي، ولا القسام، ولا يوسف العظمة، ولا سليمان القانوني.
نعم، شعوب بلا نصير، وقمم بلا مصير، وبيانات هباء لا تجد من يلغيها من سجل المكارم والقيم العربية المهدرة، إلا تعزية ومواساة أبيات شاعر الشام الكبير، الدبلوماسي المناضل الفصيح عمر أبو ريشة:

ألاسرائيل … تعلو … راية
في حمى المهد وظل الحرم !؟
كيف أغضيت على الذل ولم
تنفضي عنك غبار التهم ؟
أوما كنت إذا البغي اعتدى
موجة من لهب أو من دم !؟
كيف أقدمت وأحجمت ولم
يشتفِ الثأر ولم تنتقمي ؟
اسمعي نوح الحزانى واطربي
وانظري دمع اليتامى وابسمي
ودعي القادة في أهوائها
تتفانى في خسيس المغنم
ربَّ وامعتصماه انطلقت
ملء أفواه البنات اليتم
لامست أسماعهم … لكنها
لم تلامس نخوة المعتصم
أمتي كم صنم مجدته
لم يكن يحمل طهر الصنم

5
إني لأسمع في الفضاءات والقنوات والصحف والوكالات، وأنا أتغلب على لظى المهانة وسوءات التجويع والترويع والتدمير والإبادة، أن هناك مؤتمرًا للقمة سيعقد غدًا بالدوحة؛ سوق جديد لعكاظ، مترع بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة، والشعارات المكرورة المكروهة المقيتة من شاكلة: نشجب، ندين، نحذر، ونطالب الأمم المتحدة ومجلس الأمن أن يتدخل.
غثاء من المفردات البلاستيكية يبعث على الغثيان، وعبارات تزيد غلواء الجماهير وتلهب جمر الإحباط، ثم ينفض السامر، والطائرات الحربية تدك عواصمنا دون أن تفقد جنديًا واحدًا.

ولو أننا خصصنا %5 فقط من فاتورة النفط لصالح تأسيس مصنع سلاح استراتيجي في مصر أو تركيا أو طهران، أو شراكة مع الصين وروسيا وبلاد الله الواسعة، لصناعة الطائرات والقاذفات الحربية مثيلات الـ F16 والـ F15 المقاتلة، لو حدث هذا أو بعضه لجاء غدًا ترامب ونتنياهو وأوغاد اليمين الإسرائيلي الحاقد مهرولين، يلثمون في مذلة وضعة واستجداء حذاء أمام المسجد الأقصى.

ولكن… “ما أقسى لكن هذه في القاموس العربي السياسي الراهن”.
على الجماهير العربية المقهورة، الصابرة على النكبة والمحنة والمهانة، أن تكمل بقية الجملة القاسية.

رجاء أخير ووحيد: أن تسمح السلطة هناك في قطر الشقيقة، بين يدي المؤتمر، لتلاميذ المدرسة الأساس التي كادت قاذفات المدمرات الأمريكية أن تحطمها وتجعلها أثرًا بعد عين وتقضي على فلذات أكبادنا، لولا لطف الله بلا حذر ولا هوادة. نعم، أرجو من كل قلبي من سلطات الأمن القطرية أن تسمح لهم بأن يصطفوا أمام السفارة الأمريكية الضخمة الفخمة (وكر الجواسيس المسومة والدبابير القاتلة)، وأن يُسمح للصبية أن يرفعوا من على رؤوسهم الشماخ والكوفيات، ويردوا على أكاذيب ترامب بأصوات هاتفة بالجرأة والسخرية:

“شوف يا خواجة، انت قايل فوق رأسنا دا في قنابير”.

اترك رد

error: Content is protected !!