الرواية الأولى

نروي لتعرف

آفاق رقمية / د. محمد عبدالرحيم يسن

حكاياتي مع بيت البرامج (٦)

حكاية بناء النظام المصرفي… حين امتزجت الخبرة بالحداثة.

د. محمد عبدالرحيم يسن

كان القطاع المصرفي أحد أهم مسارات بيت البرامج. فقد كانت الأنظمة السائدة آنذاك تعتمد بصورة شبه كاملة على مود بانك، وهي منظومة مصرفية ترتكز على لغة كوبول وتعمل على أجهزة الحواسيب المركزية -المين فريم- ذات الكلفة العالية والتعقيدات البنيوية. ورغم أن كوبول كانت سيدة لغات الأنظمة البنكية لعقود، إلا أن بنيتها الجامدة وصعوبة تطويرها جعلت عمليات التعديل مكلفة وبطيئة، كما أن معمارية مود بانك ذاتها كانت محدودة في قدراتها ولا تتيح مرونة التخصيص، وتعتمد على ملفات بيانات مسطحة غير هيكلية، لا تواكب التطور المتسارع نحو قواعد البيانات العلائقية. ومع مرور الوقت، صار من الواضح أن هذه الأنظمة غير قادرة على الانتقال إلى بيئات حديثة مثل الأجهزة المكتبية العاملة بنظام ويندوز، ولا تستطيع مواكبة توقعات المستخدمين المتزايدة.
كانت المهمة الأولى هي فك ألغاز النظام القديم والإحاطة بأطرافه كافة. استعنا بالأخوين الخبيرين عبدالله ضوينا، ومساعد اللذين خبرا بيئات كوبول والأنظمة البنكية لعقود، وتمكنا خلال ثلاثة أشهر نقل وشرح النظام بكل تفاصيله، ورسم مكوناته وخوارزمياته فيما لا يقل عن ستة آلاف صفحة، شكلت قاعدة معرفية متماسكة انطلقت منها رحلة التطوير.
ورغم صعوبة التعامل مع تراكمات كوبول، فإن انتقالنا إلى بيئة أوراكل فتح أمامنا آفاقا جديدة، فقد منحتنا قاعدة بيانات قوية وقابلة للتوسع، وأتاحت لنا مرونة في الربط مع الأنظمة المختلفة، كما سمحت لنا بتحويل العمليات البنكية المعقدة إلى وحدات قابلة للتطوير والتعديل دون أن يفقد النظام توازنه. لقد تحولت مشكلات مود بانك المزمنة إلى فرص لبناء نظام حديث يستوعب التعقيد ويتعامل معه بذكاء.
من الاسباب التي دفعتنا الى التصميم المحلي هو أن وحدة الاستثمار في النظام تشكل نحو ٧٠٪ من النظام المصرفي عموما، وإن الأنظمة العالمية عادة ما تأتي بنماذج جاهزة لا تستوعب هذه الصيغ المحلية إلا بعد تخصيص طويل ومكلف، وفي أحيان كثيرة لا يتحقق التخصيص الكامل حتى بعد بذل الجهد. لذلك صممنا النظام ليولد متوافقا بطبيعته مع هذه البيئة.
التحدي الأكبر لم يكن في التحليل ولا في إعادة البناء، بل في الجمع بين جيلين، جيل مخضرم يعرف العمليات البنكية ودقائقها، لكنه غير معتاد على قواعد البيانات الحديثة، وجيل صاعد يمتلك أدوات أوراكل ومناهج التحليل المتقدمة لكنه لا يعرف تعقيدات النشاط المصرفي. ورغم تباين الرؤى وصعوبة المواءمة، نجحنا بالصبر والاحترام وإدارة المعرفة في بناء مساحة التقاء حقيقية بين الجيلين، ليندمج القديم بالحديث ويتولد منهما نظام مصرفي فريد يستند إلى إرث عميق ويستفيد من قوة التكنولوجيا الحديثة.
وخلال عامين، تم تطبيق النظام في بنك فيصل الإسلامي وبنك أم درمان الوطني وبنك الغرب وبنك السودان المركزي. ورغم أن نظام بنك السودان يختلف جوهريا عن الأنظمة التجارية، فقد تمكن الفريق من تطويره بكفاءة واقتدار، مما أكد قدرة المبرمج السوداني على التعامل مع البيئات المعقدة دون ارتباك.
ثم جاءت لحظة العبور خارج الحدود، ففي مناقصة مشهودة ببنك سبأ في اليمن، نافس النظام ثمانية من أبرز الشركات الإقليمية والعالمية… وفاز بالعطاء. كان ذلك شرفا ووساما لبيت البرامج، ودليلا على أن الكفاءة الوطنية متى وجدت لها الفرصة، استطاعت أن تتجاوز الحدود بثقة واقتدار.
كنا نمضي بخطط توسع محلية وعالمية طموحة، غير أن في تلك القصة بقية… سنعود إليها لاحقا حين يحين وقت العبرة.

٢٦ نوفمبر ٢٠٢٥م

اترك رد

error: Content is protected !!