أهل السودان، لن تجدوا تشخيص الأزمة في عمود أوضح من هذا. فضلا لا امرا، اقرءوه جيدا، دعكم من شماعة الخارج وشتم السفراء وبطولات “البركاوي” اللفظية، واجهوا عيوبكم، أجيبوا على هذه الاسئلة الافتراضية التي تسهل لكم فهم مشكلة السودان الحقيقية، وليست (المختزلة) قبل التغيير في النظام السابق و (المختزلة) حاليا في النظام الحالي بينما الداء في كلا الفترتين هو ذاته، موروث من سلف إلى خلف ومستمر:
1- لو فرضنا أن هنالك دولة جارة، تشاد مثلا، طلبت من السودان شركات مقاولات سودانية لتشييد الطرق، هل سيرفض السودان بحجة ان هنالك شركات تشادية مؤهلة؟ أساسا، لو رغبت تشاد تسليم قطاع الطرق كاملا للشركات السودانية، هل الحكومة السودانية معنية بالرفض أو القبول أم دورها هو التنسيق وتوظيف هذا المكسب اقتصاديا وأمنيا وسياسيا لصالح السودان؟ هل السودان هو المعني بنصح تشاد أنها يجب أن تعتمد على شركاتها وليست السودانية؟ باختصار، هل الملام تشاد التي فرطت أم السودان؟ هل يعتبر سفير السودان في انجمينا هو المسئول عن هذا الخلل في تشاد؟
2- لو اغلقت ارتريا ميناء مصوع بسبب اضطرابات ووقعت عقد لاستخدام ميناء بورتسودان لعشر سنوات، هل سترفضون؟ أبدا، ستقولون قلبنا مع أرتريا ونتمنى زوال الازمة قريبا. وبعد فترة ستنشأ في البلدين طبقة اقتصادية سياسية بسبب هذا التحول وستكون حريصة على اطالة أمد الاضطرابات في ارتريا، لتمديد العقد عشر سنوات أخرى، وعشر أخرى بعدها، وستكون هذه الطبقة من القوة في تشكيل القرار الخارجي تماما في ارتريا، بل وستخضع الحكومة التي اتخذت القرار الخطأ لنفوذ هذه الطبقة. باختصار، هل الملام ارتريا التي فرطت أم السودان؟ هل يعتبر سفير السودان في أسمرا هو المسئول عن هذا الخلل في ارتريا؟
3- لو عاقبت بنوك دولية جنوب السودان وكان السودان يمتلك نظام تحويلات دولية وبنوك عالمية، وتوجه له جنوب السودان بكل ناتجه القومي (خاص وحكومي) وأودعه في بنوكه، وصارت كل شركة في الجنوب تفتخر بان لديها مستودعا في المنطقة الحرة بورتسودان ومكتبا في المنطقة الحرة قري، ونشأت طبقة في جنوب السودان مستفيدة هذا الوضع ولديها فلل وقصور في أحياء قاردين سيتي والراقي في الخرطوم .. هل سترغب هذه الطبقة الحاكمة في إكمال رفع العقوبات وانفتاح جنوب السودان أم سترغب اطالة أمد الوضع المفيد لها؟ وستكون أحرص من الخرطوم نفسها على استمرار قطيعة الجنوب مع العالم؟ بل وستعيق أي محاولة من شخصيات مؤهلة للقيام بأي تخطيط أو مجهود جاد للانفتاح. لأن الناتج القومي الاجمالي للجنوب كاملا يمر عبر الخرطوم ولديها في ذلك “دلو لبن” يومي من البقرة الحلوب!
لو استمر هذا الوضع عشرين سنة، هل سيبقى أي فرد في جنوب السودان من رجال الاعمال أو السياسيين والحكوميين والمعارضين الراغبين في تكوين الثروة أو ضمان مستقبل اسرهم خارج سيطرة الخرطوم المالية؟ هل سترغب هذه الطبقة تغيير هذا الوضع؟ باختصار هل الملام جنوب السودان الذي فرط أم السودان؟هل يعتبر سفير السودان في جوبا هو المسئول عن هذا الخلل في جنوب السودان؟
4 – لو فرضنا أن يوغندا توترت علاقتها مع أمريكا أو اسرائيل وبدلا من أن تفاوضهما مباشرة .. بالباب العديل .. رغبت في ادخال السودان واسطة ومشرف وراعي وضامن الحوار؟ هل سيرفض السودان؟ واذا نسبت الفضل للسودان كاملا هل ستحتج وزارة الخارجية في الخرطوم وتقول أن ما حدث هو نجاح يوغندي؟ واذا ترددت يوغندا بعد التحسن في اقامة علاقات مباشرة، وأهملت توظيف مكاسب الانفراج، واصاب الطرف الخارجي قلق من التراجع، ورغب في الاستثمار عبر شركات سودانية، مثلا، لبناء مطار، واحتكار فوائده عشرين سنة؟ هل سيرفض السودان وينصح يوغندا بعدم التردد في علاقاتها الخارجية والشروع في تفاوض مباشر وأن الأمر لا يحتاج للسودان ولا شركاته؟ باختصار، هل الملام يوغندا التي فرطت ام السودان؟ هل يعتبر سفير السودان في كمبالا هو المسئول عن هذا الخلل في يوغندا؟
في كل الحالات .. لو في بلد هاملة ومضيعة حقوقها وفيها نخب سياسية (سابقة ولاحقة) أكرر (سابقة ولاحقة) أكرر للمرة الثالثة (سابقة ولاحقة) مستفيدة من هذا الهوان .. مقابل “مصروف جيب” .. ورصيد بنك واقامة أو جنسية مزدوجة بمهنة ديليفري في دولة غربية .. أو سمسار في دولة عربية .. هل سيتغير هذا الوضع؟ هل الملام الدول الخارجية التي تستفيد من هذا الوضع ام الملام “البلد الهامل” ونخبه السياسية الجشعة؟
الخلاصة: أياكم من اختزال التقبيح في طرف أو شخصية بعينها والهاء الناس بحملات اعلامية، هذا عار سوداني شامل للجميع، ولا علاج منه إلا بالاقرار بحجمه الحقيقي وعقد العزم على تغييره.
الأعمدة وقصائد هجاء السفارات والامم المتحدة ليست حلا، لأن ما يحدث حاليا -بكل وضوح- صراع داخل الطبقة المستفيدة من التوغل الخارجي في الغنائم، وسينتهي باتفاق بينها، ليعود البلد الهامل هاملا.
سفراء الدول مجرد موظفين مؤقتين، ينفذون أوامر من يرأسونهم، وسيذهبون لبلدان أخرى ويتركون لكم ثيابهم المستعملة التي بصقتم وتقيأتم عليها لفقرائكم وطلاب الخلاوي، فلا تتنافسوا في توسيخها.
ناقشوا مشكلة السودان الحقيقية وارحمونا من هذا “العبط” والهاء الرأي العام الذي يقف خلفه المستفيدون الحقيقيون.
ختاما الى البرهان،: التاريخ يسجل الان، وخلاصته ستكتب على شاهد قبرك، بطل أم خائن، ولا أحد يختارها لك البتة، انت الذي تختار لك ولأسرتك وأبنائك.