الرأي

حسين خوجلي يكتب : سردية العيد في ضاحية الضحايا والأضاحي


كان تاج الأصفياء ود العمدة أميرا لقهوة السودانيين بالقاهرة، والرجل كان مستودعا للحكمة السودانية من أفكار وأشعارٍ ومدائح وأغنيات ومُلح وطرائف وفوق ذلك مثقفاً من الطراز العالي، وكانت له مقدرة فائقة في التواضع والتواصل باللغة العامة.

تحلقت حول تاج الاصفياء مجاميع من السودانيين كانت تستبقيه حتى اذان الفجر حيث يصلون في مسجد قريب ويتفرقوا على أمل اللقاء، وعندما لحظ صاحب المقهى المصري الظريف توافد السودانيين حول الرجل أمر النادل بأن لا يأخذ ثمن على مشروبات الرجل من القهوة والشاي، لكنه رفض في شمم معتذرا بإن احتماله للسودانيين وجلساتهم الممتدة يكفي.

وقبل عيد الأضحى بشهر فاجأ تاج الأصفياء جمهوره بأن منادي السودان قد نادى وأنه قد حزم أمره وحقائبه وأسرته، وقرر أن يعود إلى قريته الوادعة الجزيرة. ألجمت المفاجأة الجميع وبدأوا يتبارون بتثبيط همته عن العودة، لكنه كان قد صمم على العودة المجيدة. فبدأوا يحيكون مجموعة من المرافعات حتى تثنيه عن الرحيل المر، وكالوا له مجموعة من الحقائق والأكاذيب حول الوضع في السودان (انعدام الماء، وانقطاع الكهرباء، وانتشار الداء والمسيرات، والخوف الذي لم يتبدد بعد) تداولوا حججهم بالعربي الفصيح وبالدارجي المليح، لكن الرجل تأبى على كل الرجاءات والإغراءات وقد كان بيت القصيد الذي ظنوا أنه سيجعله يتراجع القصيدة التي قرأها صديقه في حزن وتجويد يا تاج الأصفياء نحن نقدرُ محبتك للسودان، ولكن نخاف عليك ما حدث لابراهيم بن يحيى شاعر غزة القديم الذي أغلق عليه فحار في إبداع الشعر ولم يجد في رحيله كريماً ولا مليحاً والأبيات الشهيرات:
قالوا: هجرت الشعر قلت: ضرورة
باب الدواعي والبواعث مغلقُ
خلت الديار فَلَا كَرِيمٌ يُرْتَجَى
مِنْهُ النَّوَالُ وَلَا مَلِيحٌ يُعْشَقُ
وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَى
وَيُخَانُ فيه مع الكساد ويسرق

ولكن يبدو أن كل هذه المرافعات المبينة لم تجدي ففي ذات صباحٍ حزين اعتلى تاج الأصفياء وأسرته الفاضلة الباص السريع المغادر، وقد إلتف حول الباص عشرات من المودعين وعلى طريقة العشاق والمحاربين وقف ملوحا للجميع، وكان لا يودع رجالا انما كان يودع دموعا وذكريات.

وبعد أيام من وصوله كاتبهم في رسالةٍ تحكي راهن السودان وأحوال الناس قال في لغة موحية واعتذاريه

اخوتي الكرام بمصر الحبيبة التي ما بخلت علينا بشئ فقد عشنا زماناً وسط شعبٍ موطأ الأكناف حاضر الكرم والسعة وحب الآخرين. وإن كان لي حزنٌ على المغادرة فهو حزني على هذه الصحبة التي بنيتها مع أبناء شمال الوادي.
وصلت السودان وعبرته فرأيت المأساة في وجوه الناس في بورتسودان وكسلا وعطبرة ومدني وفي قريتي الصغيرة التي تنام في رفق على كتف النيل، نعم كانت العيون مترعة بالأحزان والأسف وظلال النكبة، لكنها كلها بلا استثناء كان فيها بريقٌ عجيب من الكبرياء والصبر والتطلع نحو القادم، بريق لا تخطئه العين ولا يغيب عن الخاطر حتى عن الغافلين.
استقبلني أهلي بسعادة غامرة وحب وعانقوني معانقة الأرض اليباب للغيث مسكوب بعد محل وجدب وجدتُ أن (أولاد الحلال) من أبناء القرية في المنافي قد قاموا بتركيب الطاقة الشمسية لصهاريج المياه فتدفقت في انسيابٍ وكثافة جعلت الشرب والارتواء والابتراد سهلا مثل إلقاءِ تحية. وأضاء المسجد والمدرسة ونقطة الغيار من جديد وكانت الوجبة الجماعية هي طعام الأشعريين حيث يحمل كل بيت ما عنده في مقدمة القرية ويأكل الجميع بالتساوي على طريقة اشتراكية المؤمنين.

حكت لي مغنية القرية القديمة وشاعرتها ومادحتها الآن الحاجة سوميته بت العاقب عن الذي حدث قالت باختصار: (دخلوا علينا هؤلاء المسانيح دخول الجراد مدججين بالسلاح وفي ضربة واحدة قتلوا ثمانية من شباب القرية، الذين تصدوا لهم بالعكاكيز والسواطير والحجارة فلم يكونوا يمتلكون غير ذلك وأنت تعلم أن قريتنا هذه منذ أن أنشئت إلى الآن لم تشهد جريمة ولم تدخلها شرطة ولم يذهب منها أحد إلى محكمة. قتلوا وسرقوا وهربنا بالبنات إلى الوادي البعيد وأنت تعلم يا ود العمدة أن الأعراض أشرف من الأغراض، وراحت بعدها في موال طويل من البكاء والنحيب الذي مزق قلبي ألف مرة.

إن الذي رأيته ولمسته في هذه القرية الصغيرة الوادعة ينبئ بأن السودان كله مقبل على تغيير كبير فقد أنشأ هولاء الفلاحون البسطاء جمعية تعاونية قامت بزراعة كل السواقي والأطيان المتاخمة على النيل مباشرةً وأصلحوا (المَتر والبوابير) واشتروا تراكتور لتسوية الأرض أمام القرية لزراعة البلدات والخريف على الأبواب وهم يحلمون من جديد أن يملأوا المطامير بالفيتريته وهم يرددون مع شاعرهم الشعبي:

عليق الفيتريت زود قفاك اتردم
وجاك صي الفيافي والارايل الحُدّم
ومن الامو شبرين منو ما بتتقدم
أرح نتسلى في الزايله البناها مهدم

إني أكتب لكم والقرية قد استعدت بالأضاحي قليلة العدد، لكنها ستكفي الجميع ببركتها وستوزع بالتساوي على الجميع فنحن في مرحلة كتب علينا فيها أن نتساوى في الفقر قبل التساوي في الغنى وقد زورت في نفسي حزمة من العبارات السودانية أرى أن إشاعتها مني ومن الذين يردون علي في العيد سوف تسقط عني الكثير من الطاقة السلبية وتلبسني بالكثير من الطاقة الايجابية عبارات من شاكلة

العيد مبارك عليكم.. علينا وعليك إتبارك
العفو والعافية لله والرسول

ولأنني حملت مجموعة من الهدايا الصغيرة وقد علقت في قلبي الأمر المحمدي الكريم تهادوا تحابوا فقد تهيأت نفسي لسماع عبارات طالما اشتقت اليها “تخدمك السعادة والأيام الطيبة، إن شاء الله يابا تبقى غابة والناس حطابة، تجيب الصبي وتمسك شباك النبي”

والناس هناك ليس كأهل البندر الذين يقابلون الضيف مرحبين داخل الغرف الضيقة، فهنا يستقبلونك كلهم خارج الفناء مرحبين الام والاب والابناء والبنات وقد عبر عن هذا الموقف أحد الرائعين قائلاً:

الفيهو زاد غيّتنا يفرح بينا
يمرق بره يوم جيتنا
منو خترنا والبلد ام (شقق) بيتنا
يحليلو البباسم لغفر سيّتنا

ان أول ما قمت به أنني أعدتُ تأهيل ديوان العمدة الذي وجدت أن العصابة قد سرقت كل ما فيه من أثاث ومعينات على الحياة المستقرة، فقد كان ديوان الوالد ملتقى للكرم والأنس والتصالح واستضافة الغريب. ذهبت إلى مدني وجلبت أثاث كافي لاستقبال القرية والضيوف من جديد وأعدت له ذوقه ورونقه من جديد، فقد علمتُ أن هؤلاء المجرمين قد دمروا في البيوت السودانية صوالينها ودواوينها لأنهم يعلمون أن علامة الفخر والكرم والشجاعة وحب الآخرين، تتضمنها الدواويين والصوالين فالأسر السودانية بالوسط الماهل ثرية أو فقيرة تحتفي بديوانها نظافة وترتيبا لاستقبال الراضي بالافراح والاتراح.

ولأن الأدب الشعبي والغناء السوداني والأشعار يعبر عن هذه القيم فما زلنا نغني الأبيات الشهيرة في القمر بوبا:

الديوان الديما مرشوش
بالزهور والوردي معروش
وبالحرير الأصلي مفروش
ريحتو مايقوما بلا رتوش
كان دة اصله الماهو مغشوش
كتروا الزارعنه في الحوش

“والزارعنو في الحوش” هنا تعبير جامع عن كل جميل في ديارنا الصبيان والصبايا والأشجار والظلال ومجموعة القيم التي لن يستطيعوا إحراقها أو تدميرها.

يظن الكثيرون أن السودان قد غاب، ولكنني اوكد لكم أن في اوبتي هذه على قلة أيامها قابلته وعانقته وسالمته ورددنا معا الأبيات المسافرة وأتمنى أن يرى وجهي في لحظة العناق وأن أرى وجهه:

اسمعتو تغريدي
وريتو تجديدي
في فن الأغاني
قابلتو بي ريدي
وسالمتو بي ايدي
قت ليه ياسيدي
الليلة يوم عيدي
ويوم التهاني

لا تظنوا أن بلادكم سترجع سيرتها الأولى وأنتم في المنافي تتفرجون فالسماء كما قال الفاروق “لا تمطر لا ذهبا ولا فضة” والأرض لا تُشّيد من جديد بالجامعات والجوامع والمشافي والمؤسسات إلا اذا عاد اهلها وبدؤوا قبل غيرهم مسيرة التغيير
اليابان التي دُكت بعد الحرب لم يبنيها المهاجرون، بل شيدها ابناؤها الذين شهدوا التدمير والمأساة وعاشوا الهزيمة. وكذلك ألمانيا الجديدة بناها الذين لم يبقى فوق أرضهم بعد الهزيمة في الحرب العالمية الثانية مؤسسة واحدة صالحة للاستعمال البشري، واصبحت الملايين من الماركات لا تجلب قطعة خبز واحدة.
ولماذا نذهب بعيدا انظروا ماذا يحدث الآن في رواندا الفتية التي تجاوزت المأساة وأصبحت مثلا يحتذى في تجاوز المحنة والارتقاء فوق الهزيمة.

أصدقكم القول أني عندما شاهدت هذه السهول شرقا ووسطا في رحلة العودة وشاهدت الأنهار والصبيان الغارقين في بحر البطالة والفقر واليأس والمسغبة تذكرت الآية الكريمة التي كأنها نزلت في اهل السودان
‎وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّة يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا
‎كَانُوا يَصْنَعُونَ

‎وليس الكفر هو الكفر البواح وحده فهنالك
‎الكفر المتمثل في الغفلة أمةٌ كانت نائمة حتى انقض عليها العدو قتلا واغتصابا وتدميرا وحريقا، أمة يهجم عليها الغزاة وليس في حواضرها ولا قراها (طبنجة) واحدة للحماية. وغفلة الكفر تتمثل بأننا لم نستطيع الإحاطة بثرواتنا لا زرعاً ولا ضرعاً ولا أرضاً ولا معادن، فطمع فينا العدو القريب والغريب. ومن المعلوم فقها أن المال الغير محروس لا يقام على سارقه الحد

عليكم أن تعودوا حالاً خفافاً وثقالاً وعلى كل ضامر تأتون من كل فج عميق فالأمان الذي أحسه الآن وسط اهله رغم المعاناة لم أحس به وأنا آمنٌ شكلاً في المنافي واعلموا (فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا)

وأخيراً اجعلوا العناية لبلادكم في هذه المرحلة الحرجة من التاريخ قبل العناية بأبنائكم وأنفسكم، وصدق السفير المهندس الشاعر يوسف مصطفى التني حين قال:

بي ديني بعتز وأفخر وابشر
ما بهاب الموت المكشر
ما بخش مدرسة (المبشر)
وعندي معهد وطني العزيز

نحن للقومية النبيلة 
ما بندور عصبية القبيلة
تربي فينا ضغائن وبيلة 
تزيد مصايب الوطن العزيز

مرفعينين ضبلان وهازل
شقو بطن الأسد المنازل
نبقى حزمة كفانا المهازل
نبقى درقة وطني العزيز

وأخيراً جداً فأني أبشركم بأن بلادنا قد امتلأت بالليوث جيشاً ومقاومة شعبية وشبابا، تركوا كل متاع الدنيا وأصبحوا يقاتلون ليل نهار من أجل سودان مستقل حر
وبمثل ما أبشركم بالليوث، فإني أحذركم من الذئاب المرفعينين اللائي حذر منها التني قديما فاختاروا الثنائية التي ترونها تصلح تعبيرا عن المؤامرة والعمالة والخيانة
عبد الرحيم وحميدتي مرفعينين، وبرمة والتعايش مرفعينين، وموي وحمدوك مرفعينين، ووجدي وسلك مرفعينين، والذي يجمع بينهم مرفعينين ضبلان وهازل
شقوا قلب الأسى المنازل قاموا بشقه قديما في كرري أما الآن في سنجة ومدني والخرطوم والأبيض والفاشر هيهات هيهات والسلام.

الجدير بالذكر أنه بعد شيوع رسالة تاج الأصفياء للقاهرة علمت أن أكثر من مائة باص ستتوجه ثالث أيام العيد صوب عطبرة والبقية تأتي.

اترك رد

error: Content is protected !!