كلما كتبت عن عَلَمٍ يتراءى لي ..
و كلما قرأ لي أخي ( شكرالله ) مقالاً تمنى عليَّ أن أكتب عنه ..
و في كل مرة يستحثني صديقي
( عبدالله البشير ) أن أَلِجّ هذا البحر اللُجِّي ، لعلي أبوء بصدق النية إن
لم أقارب المُبْتَغى ..
و عندما كتبت عن الدكتور
( نصرالدين شُلقامي ) ، ألحَّ علي
الأخ ( محمد عبدالجليل ) أن
ارتقي هذا المُرتقى الباذِخ ..
كانوا يخاطبون رغبةً كامنةً عندي ..
و كنت ، من قبل ، كلما هَمَمْتُ
تراجعتُ ..
عجزاً و تهيُّباً ..
فما عساي أقول عن ( قاسم بدري ) !!
تلك المِشْكاةُ المُضِيئة ..
و هو من أوقَفَ حياته و كرَّس جهدَه ،
لرسالة ينوء بحملها أولوا العزم
و الطَّوْل من الأناسِيّ ..
و هي تَعْمِيد و توقير المرأة ..
و ( إن في المرأة يكتمل ظهور
الحقيقة ) ..
و القولُ ( لمُحيي الدين بن عربي ) ..
مؤلف ( الفتوحات المكية ) ،
و ( ترجُمان الأشواق ) في لغة
العشق و العُشاق ، القائل ..
( إِنَّ الفِراقَ مَعَ الغَرامِ لَقاتِلي
صَعبُ الغَرامِ مَعَ اللِقاءِ يَهونُ
مالي عذُولٌ في هواها إنها
معشوقةٌ حسناءُ حيث تكون ) ..
لذا نجد أن مَنْ مَهَدَ طريقاً للمرأة ،
لاكتساب العلوم و المعارف ، و اتخذ
حبه تبعاً لذلك ، يكون أشبه ( بشيخ
الطريقة ) ، الذي تنجلي به الظُّلَمُ
و تتجلى أنوار ( الحقيقة ) ..
و إن الطُّرُقَ إلى الله تتعدد بتعدد
أنفاس الخلائق و أوجه سعيهم ..
فإذا كان الله قد اختص أقواماً
بقضاء حوائج الناس ، فإنه قد
سَخَّر آخرين ، و ( قاسماً ) ، ليكونوا
رِدْءاً و رِداءً لمن يُخْرِجن من
أحشائهن الناس ،،
و يكلأن برعايتهن وصادق عطفهن الناس ،،
و هذه لعمري ، مهمةلا يُلَقَّاها إلا
صبور ، و لا يُلقَّاها إلا ذو حظٍ
عظيم من الناس ..
و أعيد ماسبق أن قلته وأنا أكتب عن ( البروف علي شمو ) مستعرِضاً عطاء نفرٍ من الكبار ..
(( ومن يَطالُ ( قاسم بدري ) ، في تجسيد ( قيمة ) أن تكون حفيظاً على ميراث آبائك ، قائماً عليه ، بكل ما
أوتيت من عزمٍ وقوةٍ ويقين، لتكون مصدر إسعاد وإشعاع لأجيالٍ تتلوها أجيالٌ من ( زهرات الغد ) ..
إنها مُهِمَة جَدّ عسيرة ، فإذا كان
البعض يَسْوَّدُ وجهُهُ إذا بُشِّر بالبنت ، فأيُّ عظمةٍ ، وأيُّ نُبْلٍ ، يتجليان في ( هذا الرجل ) الذي اتخذ من الألوفِ ( بناتٍ ) له ( وحفيدات ) ، يُعَلِّمُهن ، ويرعاهنَّ، ويربيهنَّ ، ويعجم
أعوادَهنَّ ويُشاطِرُهُنَّ المسرات والأحزان ، لِيغْدُو له في كل دارٍ
تِذْكار ))..
و يقيني أن ( قاسم بدري ) يدخل
( بالأحفاد ) من أوسع أبواب العمل
الحَسَن و الرشاد ، ذلك أن ( الأحفاد )
ليست مجرد حاضنة تعليمية ، بقدر
ماهي مَثَابة للتنوير و التلاقي
الوجداني و التنشئة المجتمعية ،
في أنصع صورها و أشكالها ..
إنها أشبه ( ببيت كبير ) تتعاقب عليه
أفواجٌ تلو أفواج من ( فتيات الغد ) النَضِرات ، اللائي ينهلن من العلوم
و فنون الحياة تحت أُبُوة ( قاسم ) ،
فتجدهن يبسطن له مواقع في
قلوبهن لا يطوينها عنه طيلة حياتهن ،
بعد أن صار لَهُنَّ أباً بعد آبائهن الذين
و لِدُوهنَّ ..
( يَتَكَأكَأن ) حوله ، أي يتجمعن
و يزدحمن ، فيُدْنِينهُنَّ منه ولا يقول
لهن ( افْرَنْقَعْن ) ، أي تولين وانصرفن
و اغربن عن وجهي ..
و عندما يقسو ، فهي قسوة الحاني العطوف الولوف ، الذي يحمي
و يُسَدِّد و يُشَذِّب و يُهَذِّب ..
لذلك لا يُنَادِينَهُ ..
بروف ( قاسم ) ،،
ولا يا أستاذ ( قاسم ) ،،
ولا يا Boss ( قاسم ) ..
و لكنه ..
( بابا قاسم ) ..
تحيتُهُنَّ له ( بابا قاسم ) ،،
و تذكرهُنَّ له ( بابا قاسم ) ،،
و دعوتهُنَّ له لأفراحهنَّ ( بابا قاسم ) ،،
و ليتني كنت بعضاً من ( بابا قاسم ) ..
( بابا قاسم ) الذي يَسِيِرُ على مَحَجَّةٍ مُبصرةٍ و هو يمزج بين ..
فن التعلُّم ،،
و فن التعامُل ،،
و فن التَّجَمُّل ،،
و فن التّحَمُّل ،،
و فن كل فنٍ يُحْيي النفوسَ و يَزِينُها
بأقدارٍ من التكريم و التبجيل
و التأهيل و التجميل ..
لذا ..
تجد في الأحفاد ..
مناخاً مُعافى يُسهم في التحصيل ،
و يصقل الفهوم و يُنْضِجُ العقول ..
و مناهج و دروس مُلهمة في ..
طب الأبدان ،،
و طب النفوس ،،
و بناء القُدُرات ،،
و تدوير الأعمال ،،
و ترقية المجتمع ،،
و أساتذة يتخذون من المهنة قُرْبَى
لإرضاء الأنفس أولاً، و إزكاء الغرس
حتى ينشأ طيباً مِدراراً ، فهم بذلك
حَمَلَة رسالة و حُرَّاس قيَّمٍ تَصِلُ
الأرضَ بالسماء ..
و معايشة خالية من شوائب التربُّص
و التوجُّس و الترصُّد ، و عامرة بالتلاقي الذي لا يُكدِّرُ صَفُوَه نزوةٌ أو شهوةٌ ،
أو ( تلبيس إبليس ) ، مما يقدح
زنادَه تقاربُ أنفاس الجنسين ..
و حِرْزَاً منيعاً تنصهر فيه كل الإثنيات
و التباينات ، لتتجلى للناظرين لوحةٌ
بالغة التنسيق و التناغم و الإبهار..
تجد زحمة ألوان ، من الطبائع
و الأشكال و الأمزجة ..
حيث الغرابيات بإبَائِهنَّ ،،
و الشماليات بأريحِيَّتِهنُّ ،،
و الشرقيات بأنِفَتِهنَّ ،،
و الجنوبيات بلَكْنَتِهنَّ ،،
و الأوسطيات بدلالِهنَّ ،،
و غَيرَهُنَّ بغُرُورِهنَّ ،،
و غيرَهُنَّ بغنَجِهنَّ ،،
و غيرَهُنَّ بِجِنُوحِهنَّ ،،
و غيرَهنَّ بلذيذ جِنُونِهنَّ ..
و حيث كل أنواع الأزياء ، المُستوطِنة
و الوافدة ،،
التوب المُهَفْهَف ، و الطِرقة ، و الرَّبِط
و الفوطة ، و الفردة ، و الطرحة
و التنورة ، و الكلوش ، و الفستان ،
و العباية ، و اللاوا ، و الجرار ، و آخر صيحات الجينز ، و الإسكيرت
و البلوزة بكل تشكيلاتها ، مُحَذَقَة
و فضفاضة ..
و عن الشُعُور فحدِّث ،،
الشعر الممشط ، و المقصوص ،
و الملموم ، و المفرود ، و المَسَايِر ،
و الضفاير ، و المعكوص ، و الآفرو ،
و الكعكة ، و ذيل الحصان ..
و تجد من المُزَيِّنات ،،
الزُمام ، و القُرْط ( الحلق ) ، و السوار ،
و الحجل في الرجل ، و الرشمة ،،
( أب رشمة عاجباني فيهو البسمة ) ..
و الحِنة مرسومة و منقوشة ..
و حيث المحجبات و المُسفِرات ،
و النُص نُص ..
و ياهو ده ( السودان ) ..
إنه أبدع و أروع أنواع التنوع الذي
يَرفَعُ ولا يَضَع ..
أما ( كورال الأحفاد ) ..
فتلك قصة و حِصة ..
بِنَياتٌ عِذابٌ عَذاب ، صدَّاحات ،،
يتوشحن بالبياض و كأنهن عرائس مَجْلُوَّة من زهرات النرجس
و الزنابق و الثلج ،،
يَنْثُرْنَّ من أفواههن غناءً في طعم الشهد ..
( أيُّ صوتٍ زار بالأمس خيالي
طاف بالقلب و غنى للكمال
و أذاع الطهر في دنيا الجمال
و أشاع النور في سود الليالي
إنه صوتي أنا
زاده العلم سنا
من يُدَانيني أنا
إبنة النور أنا
أو تدري من أنا !!
أنا أم الغد أسباب الهنا
أنا من دنياكمو أحلى المنى ) ..
و حيث ( قاسم ) ..
و ( قاسم ) سَليلُ الأحفاد و رضيعُها ،
فقد ظل ملازماً لأرائكها و حيطانها
و حفيداتها و مريديها ، منذ الروضة ،
إلى التحاقه ( بالجامعة الأمريكية ببيروت ) ، حيث جَنَى ( دبلوماً )
و ( بكلاريوساً ) و ( ماجستيراً ) ،
ليعود إلى مرتع هواه و غاية آماله ( الأحفاد ) ، إلى أن غادر إلى ( بريطانيا ) ، مُلْتَمِساً تَعَلُّم أساليب القوم في التربية ، و من بعد قصد( جامعة كاليفورنيا ) ، حيث
قطف ( ماجستيراً ) آخر ، و عزَّزه بدكتوراه في في أصول و مناهج
و أساليب التعليم ، و شهادات
كُثُر ..
و يؤوب ليستأنف الزودَ عن شُعْلةٍ
أوقدها والده ( الشيخ يوسف بدري )
في العام ١٩٦٦م ، وصلاً لمسيرة
انطلق بها من ( رفاعة ) رائد تعليم
البنات في السودان ( الشيخ بابكر
بدري ) ، الذي انخرط مجاهداً
تحت راية ( المهدية ) ، و هي
الروح الزكية التي ألهمها ذَويِّه
من بعده ، و سَكَنَ لها و اطمأن
بها فؤادُ ( قاسم ) ..
وهي الروح التي أبقت على( الأحفاد )
مورداً عاماً ، أشبه ( بالوقف ) ، ذلك
أن عائدات ( الجامعة ) من الرسوم ، تعود إلى ( الجامعة ) تسييراً و تطويراً
و لا يستأثر بها أحدٌ ، و ما ( قَاسِمٌ )
إلا خادم في بَلاطِها ، ينالُهُ ما ينال
الآخرين ، كل حسب سابقته و موقعه
و جهده و إخلاصه و تعَلُقِهِ ..
و الحصيلة المُفْرِحة لهذا النهج
القاصِد المُقْتَصِد ، مكتبة ثرية
و قاعات و معامل و مرافق و بِنْيَات
تسر الناظرين ، و تطمئن لها نفوس
المعلمين و المتعلمات و حُرَّاس المستقبل ..
و ليعذرني من يرى فيما أقول دون
ما يطمح لمعرفته عن ( قاسم ) ،
فأنا لست من المترددين على ( الأحفاد ) ، و لم أنكَّب دارساً
لسيرته ، ولم اسْتَقصِ عنه المقربين
أو اللائي تتلمذن على يديه أو ذوي قُرْباه ، و لم أتوسل إليه يوماً في
غرض ، بل هي أنفاسٌ أوحت لي بها مشاهداتٌ جاد بها زماني في
حضرته و أنا أتتبع تألقه و شروق
شمسه هنا و هناك ..
أُصادفه في الملمات و النوازل ..
و عندما كان يتصل بي في أمرٍ
يتطلب مشاركة القناة ، فأمضي
مُستجيباً مُسرعاً بحرصٍ وهمةٍ ..
و أحرص عندما يتيسر لي حضور
عُرْس التخريج السنوي ( للأحفاد ) ،،
و الذي هو بهاءٌ في بهاءٍ ،،
تَخْتَالُ فيه المُتَخَرِجات بنشوةٍ
و امتلاء ،،
فيستحيل المكان عِقداً من اللؤلؤ
و الياقوت و شقائق الضياء ،،
و الوجيه ( عبدالمنعم بدري ) يَسَعُ الحضورَ بلُطْفِه و غامر الاحتفاء ،،
و هو ( المحفل ) الذي قد تجده
يضم الجَدَّة و ابنتها و حفيدتها
و كلهن قد رضعن من ثديها
المِعطاء ..
و قبل الكورونا التي فَرَّقَت بين
الأحباب ، كان يجمعنا الوجيه
( عمر أُرو ) بمنزله الملحق بمسيد
و مسجد سيدي ( الشيخ الحاج
محمد صالح أرو ) بحيهم ( ود أرو ) الشهير ، وذلك صباح أول أيام كل
( عيد فطر ) و هي دعوة الإفطار
التي ظل مواظباً عليها ( عمرُ ) ،
و قد يأتي إليها خصيصاً من ( أمريكا ) ليجتمع لها نفرٌ عزيز من وجهاء
و أصفياء ( أم درمان ) و ( قاسم ) ،
و كنا نحرص على حضورها أنا
و صدِيِقَيَّ ( عبد الدافع الخطيب )
و أحياناً ( صالح محمد علي ) ..
و ( ياعمر ود دُرُو حقي ما تودِرُو ) ..
و أصل الحكاية تجدونها عند القُطب
( طارق شريف ) ..
و كذلك كنت واحداً إلى جانب (قاسم)
ممن كانوا يتسامرون بمنزل صديقنا الفقيد ( عصام عبدالحميد ) ، و حرمه
( دكتورة وفاء مُقبل ) تقوم على
خدمتنا على قدمٍ وساق ، و هو من كتبت عنه مقالاً أسميته ( شَذا القُرُنفْل ) ..
و كثيراً ما أظلتنا دارُ عزيزنا الودود
( الباشمهندس عمر أبوالقاسم ) ،
في معية ثلة من الأماجِد الأكارِم ،
و زوجته الجميلة ( عَيشَة ) تغْمُرُنا بالبشاشة و بأصناف الشراب
و الطعام حتى نحتار ، أيُّها نتْرُك
و أيُّها نَخْتَار ..
و ( عمر أبوالقاسم ) مؤسس و رئيس
( جامعة قاردن ستي ) شرفني بعضوية
( مجلس أمناء الجامعة ) لأكون إلى
جانب أساتذة عِظام ، أذكر منهم
( بروف علي شمو ) و مولانا ( عبيد
حاج علي ) رئيس القضاء الأسبق ،
و ( الفريق صلاح الشيخ ) ،
و ( البروف عوض حاج علي ) ،
و بالطبع ( البروف قاسم ) ، ليكون
هذا واحد من أوجه اقترابي منه
و تعرفي عليه أكثر و أكثر ..
و لعل آخر عهدي به ليْلاتٌ تَنادَيْنا
فيها إلى بيته المَعْمُور ، و نحن نُرَتِبُ
لليلةِ تذكُّرِ أحبةٍ رحلوا ، الواحد تلو
الآخر ، بعد أن كانوا بين رَبْعِهم زينةَ الأيام و ضياءها ، فكان مَنْ أُعِّزُهُم
من الحضور ، الخَلوق ( عمر مُنَوَّر ) ،
و الحبيب( هاشم أحمدالمصطفى ) الذي عبر عن حُبِه ( لقاسم ) بديوان
من الشعر ، و أخي الشاعر رجل
الأعمال ( عبدالله البشير ) ، و الراقي
( سيف الدين حاج الصافي ) ،،
و ( ياسيف ) نتْمَنَى و تكون ( الصافية )
مَسْكَنَا ..
و أذكر ( لقاسم ) بامتنان أنه عندما أزاحتني ( لجنة التمكين ) ، كتب إليَّ
يومها رسالةَ مواساةٍ رقيقةٍ ، مما
جعلني أُناجي نفسي بأنَّ الحمدلله
الذي قدَّر لي ( هذا ) ، لينفحني ( قاسمٌ ) و آخرون خُلَّصٌ ( بهذا ) ،
مما جعلني لا أغتَّمُّ ( لهذا ) ..
و كما أنك تجد أُناسَاً تَشْمَئِّز نفسُك
من كل ما يتصل بهم ،،
فكذلك تجد أناساً تَسْتَلِّذُ نفسُك
كلَّ يتعلق بهم ، و إن جَنُوا و تجَنُّوا ،
و صدوا وجاروا ..
( ظلموني الناس و جاروا علي
و الجور ده كتير كتير ما شوي
رفقاً ياملاك بحبي و بي
علشان حبك ظلموني الناس ) ..
و كمان ..
( عدل الطبيعة جعل
جور الحبيب مسموح
أنا أهدي ليك الحب
حب من فؤاد مجروح
حب الشحيح للمال
حب الجبان للروح ) ..
لا ، معذرة ، ظلم الحبيب و جوره ،
ده ما موضوعي ..
موضوعي ( قاسم بدري ) ..
إنه من أولئك الذين تستلِذُ
و تسْتَطِيبُ نَفْسُك كل ما يتعلق
بهم و إن ، و إن ، و إنْ ..
هو قريبٌ من الناس لذا يتكاثر مِن
حوله المُحِبون ، وقد لاحظت عندما افترسته ( الكورونا ) ، كم كان السؤال عنه و الدعاء له عظيمين ..
و أنا أزوره برفقة الأخوين ( عبدالله البشير ) ، و ( شكرالله خلف الله ) ، علمنا أن شخصاً يبدو أنه من عُمال ( مستشفى علياء ) ، كان يقوم بتوزيع البلح و الحلوي ، و شملهم بذلك ،
و عندما سألوه ، أفاد بأنه يفعل ذلك
من أجل ( قاسم بدري ) ، و لم يكن يعرفهم أو يعرفونه ، و قد يكون هذا الشخص غير مُدْرِك ما إذا كانت ( الأحفاد ) مصنعاً أو شركة ، و لكنه قطعاً قد سمع عن ( قاسم ) ،
مما دفعه لهذا الفعل النبيل ، من
أجل رجل نبيل ..
هذا ما روته لنا قَرِينَتُه ، سيدة الوقار
و الحضور و الاشراق و القدر العالي
و ( طيبة الأخلاق ) ، ( بروف آمنة الصادق بدري ) و هي ( لقاسم ) ، السكن ، و السند ، و الزوادة ،،
و ( الدرب الأخضر ) ،،
و ( عُشرة الأيام ) ،،
و ( ربيع الدنيا ) ..
إذ أنهما صِنوان ..
ينزعان عن أصلٍ واحد ،،
و يصدران عن طبعٍ واحد ،،
و ينهلان من نبعٍ واحد ،،
و يَلهَجَان بلسانٍ واحد ،،
و يهفوان بفؤادٍ واحد ..
و أنا كلما تقع عليه عيناي أرمقه بإعجاب و إكبار لشمائل أجدها
مُلازِمَةً له و مَوْسُوماً بها ..
فهو يُباشر مَنْ حوله بمودة و حميمية ..
و ينتبذ مكانه في الصفوف الخلفية ،
لا يلهث وراء الصدارة ، لكن الصدارة
تتصدر به أنَّى قام و حيثما أقام ..
و يَتَزَيَّا بما لا يُبْهِرُ من الرِياش و الثياب ..
و يتحدث بصوت خفيض ، لا يُقهْقِه
و لا يُزمْجِر ، و يفِرُ من براثن التجَادُلِ
و اللجَاجَة ..
و يمشي مشياً وئيداً كنخلةٍ تمشي ..
لا تفتقده أبداً فيما يُسارع إليه الناس ،
إذ يغشى الأفراح و يبادر إلى تشييع الجنائز و يعود المرضى ، و أنا من كَثْرةِ
ما أراه في هذه المواطن ، كنت
أسائل نفسي ، من أين له بكل هذه الفسحة من الوقت و النشاط و الهمة ، التي تُسْعِفُهُ بكل هذا الحضور ، و هو
على ذِروة (جامعةٍ) ، القَائم عليها ، له
ألف عذر و ألف سبب ، إن لم يُغادرها
و لو للحظة عابرة ..
و مسكنه أثَرِي بسيط ، تَلِجُهُ من
الجهات الأربع ، دون أن يعترضك
عائق و مانع ، و تغمرك فيه راحة وسكينة لكرم الضيافة و جميل الاعتناء ..
و أنت تقصده في مسألة أو خدمة
أو غرض ، قد يقول لك : ( و لكن ،
و لكنك ، و لماذا لا تفعل كذا ،
و لماذا تفعل كذا و أنت كذا !! ) ،
و لكنه في النهاية يفعل الذي
يُرضِيك فتغادره و أنت راضياً
مَرْضِيَّا ..
و تراه صارِماً و لكنها صرامة يتوارى
خلفها عالَمٌ من الحِنِيَّه و اللُطف
و روح الدُعابة ..
و يُحسِّن الحَسَنَ و يُقَبِّحُ القبيحَ ..
و له غرام بجيِّد الغناء و عذْبِهِ إذ يَرِّقُ
فؤادُهُ لتطريب أساطينه من فُلانٍ
و فُلانة ، و فُلُون ،،
و ( لعبدالعزيز محمد داوؤد ) ،
عذب اللحُون ..
( عجباً يقول الناس إنك هاجِري
و أنا الذي ذَوَّبتُ فيك مشاعري
قل لي بربك كيف تنسى الموعدا
و الليلُ أحلامٌ و شوقٌ غَرَّدا
و الجدول الهيمان حولنا عَرْبَدا
كانت ذراعاك لرأسي مَرْقَدا
عجباً أتنساها و تنسى المشهدا
أنَسِيتَ أنك في شعوري و في دمي
مهما بَعُدت و زاد منك تألمي
سأعيش بعدك راهباً في مأتم
و تعيش أبداً ذكرياتك في فمي
مادام حبك ياحياتي مُلهِمِي ) ..
و هُو ..
و هُو ، من لا أستطيع أن أُحيط به
سَرْدًا و خَبَراً و مَخْبَرا ..
و قطعاً عندما يقرأ مقالي هذا
أستاذي و صديقي البروف ( أحمد
محمد إسماعيل ) سيستدرك عليَّ عشرات المَحامِد و المآثِر و المناقِب ،
كان ينبغي علي أن أُبرِزُها في حق
( البروفيسور قاسم يوسف بابكر
بدري ) ، من نشأة و تأهيل أكاديمي ،
و مساهمات علمية و مجتمعية ،
وأسلوب إدارة متميز ، و عُضْوِيَّةِ
لجانٍ بعدد الحصى ، و أيادٍ بيضاء أسبغها على الكثيرين ، دون امتنانٍ
أو إشهار أو افتخار ..
و لكني أُقِرُّ بأني لم أكتب عنه بما
يُشبع نَهَمَ مشايعِيِهِ و ذوي مودته
و ذاكري أفضاله ..
نعم و بكل تأكيد ..
لم أكتب عنه ..
إذ أنني لم أفعل غير أن ( دَنْدَنْتُ )
في مقامه كما ( يُدنْدِن ) ذو الغُلَةِ الصادي ، حول نبع ماءٍ فوَّار ، أي
يدور و يتردد جيئةً و ذَهَابًا ، دون
أن يروي غُلَتَهُ ..
و تلك مهمةٌ عَصِيّةٌ عليّ ، أتركها لمن
هو أجدر ، و به أعرف ، و إليه أقرب .. والسلام ..
دُبي الأول من أكتوبر ٢٠٢٢
و بعدُ ..
في هذا التاريخ أنهيت مقالي ، و أنا
في ( دبي ) ، و لم أُطْلِق سراحَه حتى تناهى إليَّ أن ( البروف قاسم ) قد
خضع لجراحة بالعاصمة ( بيروت )
و هو ما يحسن عنده الدعاء ..
( إلهي أذهب البأس ربّ النّاس،
اشف وأنت الشّافي، لا شفاء إلا
شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقمًا،
أذهب البأس ربّ النّاس، بيدك
الشّفاء، لا كاشف له إلّا أنت يارب العالمين، اللهم إنّي أسألك من
عظيم لطفك وكرمك وسترك
الجميل، أن تشفيه وتمدّه بالصحّة والعافية، لا ملجأ ولا منجا منك إلّا إليك، إنّك على كلّ شيءٍ قدير )..
و في هذا الأثناء أفاض عليَّ صديقي
( الرشيد علي عمر ) بنفحاتِ مَحَبةٍ
من ( شريانه ) النابض ، نفذت إلى صميم شراييني المُتعبة ، و قد أبان
عن ذلك بلغة أدهشتني و أسكرتني
و حيرتني وسحرتني ، فتمنيت
صادقاً أن لو أُوتِيتُ بلاغة ( الرشيد ) ،
و سحره و فنونه و جنونه في التعبير ،
و أنا أكتب عن ( قاسم ) ..
و قد خلع عليَّ ( و أنا الفقير ) حُلَلاً زاهية من الأوصاف و النعوت ، و منها
ما وجَدْتُ أنها مَقَاس( قاسم ) و هو
بها أحق ، وهي عليه ألْيَق ، و لا أجد حرجاً في استعارتها لأختم بها صُبابتي ، إذ يقول ..
( و كمن عقد صفقة مع الهدوء
و الرزانة ليُكْمِلا شخصيته الوارفة
بظلال المودة ..
الوقار المحتشد بالسكينة طَبْعٌ
عنده .. لا تَطَبُّع ) ..
أو كما قال ( الرشيد ) ..
و بالله التوفيق ..
أم درمان ١ نوفمبر ٢٠٢٢