الرواية الأولى

نروي لتعرف

من زاويةٍ أخري / محمد الحاج

حرب الـ٢٧٠: معركة الفاشر وإبطال فاعلية المشروع الخارجي

محمد الحاج

اليوم، وبعد ٢٧٠ معركة، والاستبسال الأسطوري الذي شاهده العالم بأسره لأبطال مدينة الفاشر من القوات المسلحة والمشتركة والمقاومة الشعبية، سقطت مدينة الفاشر في قبضة مليشيات الدعم السريع الإرهابية، إثر انسحاب القوات المسلحة والقوات المشتركة منها. هذا الحدث المفصلي لا يمثل فقط نهاية مرحلة من المقاومة، بل يكشف عن عمق التحديات التي تواجه السودان في معركته ضد مشروع خارجي يسعى لإعادة تشكيل الدولة وفق أجندات لا تعبّر عن إرادة شعبها.

الفاشر، المدينة التاريخية التي كانت عاصمة سلطنة دارفور الإسلامية، لطالما شكّلت مركزًا حضاريًا وتجاريًا وثقافيًا في غرب السودان. موقعها الجغرافي الاستراتيجي جعل منها عقدة مواصلات تربط بين الشمال الصحراوي والجنوب الزراعي، وبين الشرق المتجه نحو الخرطوم والغرب المفتوح على الحدود الدولية. هذا الموقع جعلها هدفًا استراتيجيًا لكل من يسعى للسيطرة على دارفور، بل وعلى السودان بأكمله.

على مدار شهور، واجهت الفاشر حصارًا خانقًا وهجمات متكررة من مليشيات الدعم السريع، التي استخدمت أساليب الأرض المحروقة، والقصف العشوائي، والترويع الممنهج. ورغم ذلك، صمدت المدينة بفضل إرادة سكانها، وتكاتف مكوناتها الاجتماعية، وتماسك قواتها المدافعة. لكن اليوم، وبعد أن أنهكت المدينة عسكريًا وإنسانيًا، جاء قرار الانسحاب من قبل القوات النظامية، في محاولة لتجنيب المدنيين مزيدًا من الدمار والمجازر.

لقد ساهم هذا الصمود في إرباك خطط المليشيات التي كانت تراهن على السيطرة السريعة على المدينة، ففشلها في اقتحام الفاشر رغم الدعم اللوجستي والإقليمي الذي تلقته، كشف هشاشة مشروع التقسيم وأعاد ترتيب الحسابات السياسية والعسكرية في المنطقة⁽. كما أن مشاركة أبناء المدينة في الدفاع عنها عززت من تماسك الجبهة الداخلية، وأثبتت أن الإرادة الشعبية قادرة على التصدي لمحاولات فرض واقع جديد بالقوة⁽.

ما يزيد من مأساوية هذا السقوط هو الصمت الدولي المريب، بل والتواطؤ الضمني لبعض القوى الإقليمية والدولية التي غضّت الطرف عن حصار دام أكثر من عام ونصف، رغم التقارير التي وثّقت جرائم حرب وتطهيرًا عرقيًا بحق المدنيين. لم تُفعّل أي آلية دولية لحماية السكان، ولم تُفتح ممرات إنسانية، رغم النداءات المتكررة من منظمات محلية ودولية. هذا التجاهل لا يمكن تفسيره إلا في سياق المصالح الجيوسياسية، التي يبدو أنها تتغاضى عن معاناة السودانيين مقابل ترتيبات نفوذ جديدة في الإقليم.

سيناريو سقوط الفاشر لم يكن وليد اللحظة، بل نتيجة تراكمات ميدانية وسياسية. فالمليشيات استعانت بمرتزقة من شتى بقاع الأرض، وأخيرًا جاءت بمرتزقة من جنوب السودان وإثيوبيا، حسب مصادر أفادت بذلك، ما عزز قوتها في الميدان، ووسّع نطاق عملياتها. هذه العناصر الأجنبية، التي تم إدماجها في صفوف الدعم السريع، تشير إلى وجود تنسيق إقليمي يهدف إلى زعزعة استقرار السودان من الداخل، وتحويل دارفور إلى منطقة نفوذ خارجي.

خطوط الإمداد التي تغذي هذه المليشيات بالمرتزقة والسلاح تمر عبر حدود رخوة مع دول الجوار، وهو ما يستدعي تحركًا دبلوماسيًا وأمنيًا عاجلًا لقطع هذه الشرايين. فالمعركة لم تعد محلية، بل تحولت إلى صراع إقليمي بأدوات داخلية، تُدار من خلف الكواليس.

سقوط الفاشر يفتح الباب أمام سيناريوهات أكثر خطورة، أبرزها احتمال تشكيل إدارة موازية في دارفور، وهو ما قد يؤدي إلى تكريس الانقسام، وهذا ما يريده أصحاب المشروع الخارجي لتنفيذ خططهم لاسترجاع الدولة السودانية وقبولها بالتفاوض، وربما إعادة إنتاج تجربة انفصال جنوب السودان. كما أن السيطرة على الفاشر تمنح مليشيات الدعم السريع نفوذًا كاملًا على الإقليم الغربي.

لذلك، لا بد من دعم القوات المسلحة من قبل الشعب السوداني، لأن هذا السند الشعبي هو ما يمنح المعركة بعدها الأخلاقي والوطني، ويحولها من مجرد صراع مسلح إلى معركة وجود، ومعركة كرامة.

لكن السؤال الذي لم يعد افتراضيًا: ماذا يعني سقوط الفاشر؟ إنه لا يعني فقط سقوط مدينة، بل انهيار جدار الصد الأخير أمام مشروع تفكيك السودان. سيكون لذلك تداعيات كارثية على الأمن القومي، ليس فقط للسودان، بل للمنطقة بأسرها، حيث ستتحول دارفور إلى بؤرة للفوضى العابرة للحدود، وستُفتح الأبواب أمام مزيد من التدخلات الخارجية، والاحتراب الأهلي، والانهيار المؤسسي.

لهذا، فإن معركة الفاشر، رغم سقوطها، لم تنتهِ. هي معركة السودان كله، ولذلك يتوجب على المقاومة الشعبية أن تتمدد، وأن تقوم بدورها المنوط بها، وخصوصًا في مناطق الشمال ونهر النيل والشرق. فهذه هي معركة الوعي، والسيادة، والكرامة. وكل يوم يُستعاد فيه شبر من الأرض، هو يوم يُبطل فيه مفعول مشروع خارجي لا يريد لهذا الوطن أن ينهض.

محمد الحاج
٢٨ أكتوبر ٢٠٢٥م

اترك رد

error: Content is protected !!