
في حروب العصر الحديث لم تعد الجيوش وحدها هي التي تخوض الصراع، بل باتت الدول تواجه طيفًا واسعًا من الوكلاء والواجهات المصنوعة، تُدار عبرها النفوذ وتُخاض بها معارك إعادة تشكيل الخرائط. وحرب السودان ليست استثناءً، بل مثالاً مكثفًا لتقاطع المصالح الخارجية مع كيانات تُنشأ لأداء وظائف محددة تتجاوز إرادة أصحابها. هذا المقال محاولة لقراءة هذه البنية وتحليل آلياتها.
لم تعد الحرب التي اندلعت في السودان منذ فجر الخامس عشر من أبريل 2023م مجرد مواجهةٍ بين جيشٍ وطني وميليشيا خارجة على سلطة الدولة، ولا هي خلافٌ سياسيٌ يمكن احتواؤه بتسوية تُدار في غرف مغلقة. لقد تجاوزت الحربُ حدودها الطبيعية، وانفتحت على مسرحٍ أوسع، أصبحت فيه السودان ساحةً مكتظة بالكيانات والكائنات الوظيفية، كأنها مستنقعٌ تتدافع فيه الأجسام المصنوعة، والمنصات الموجهة، والوجوه التي يُعاد تدويرها لخدمة أجندات تتجاوز حدود البلاد.
ما نراه على السطح ليس لعبة الفاعلين الحقيقيين، بل حركة الوكلاء. أما اللاعبين الكبار فيديرون خطوط اللعبة من خلف الستار، عبر هندسةٍ دقيقةٍ للنفوذ، تُحدَّد فيها الأدوار، وتُرسم الوظائف، ويُدفَع فيها البعض إلى الواجهة بينما تُحجب اليد التي تمسك بالخيوط.
لقد تحوّلت الحرب إلى حربٍ على هوية الدولة لا على السلطة؛ حربٍ على موارد السودان وموانئه وممراته وموقعه الاستراتيجي؛ حربٍ تُعاد فيها صياغة السودان ليصبح “وظيفة” في منظومات إقليمية ودولية، لا دولةً مستقلة القرار.
وحتى نفهم كيف وصل السودان إلى هذه اللحظة، وكيف يستمر النزيف، نحتاج إلى تفكيك بنية هذه الكيانات والكائنات الوظيفية: كيف تُصنع؟ من يديرها؟ كيف تتطور؟ ولماذا تبقى؟
مفهوم الكيانات الوظيفية
الكيان الوظيفي ليس كيانًا مستقل القرار أو صاحب المصلحة النهائية. هو بنيةٌ تُصنع لا تُولد، وهو جسمٌ يُنشأ أو يُستَخدم لأداء وظيفةٍ محددة داخل مشروع أكبر؛ مشروع غالبًا لا يملك هذا الكيان أن يحدد اتجاهه أو يوقف مساره.
غالبًا ما يرتكز الكيان الوظيفي على ثلاثة أعمدة أساسية، فهو:
وظيفة مُسنَدة: تُحدد له مهام تخدم جهة أعلى.
تبعية قرارية: القرار الاستراتيجي لا يصدر عنه، بل من الممول أو الراعي.
تداخل أهداف: قد يحقق بعض مصالحه الذاتية، لكنها دومًا ثانوية وتابعة.
كيف تنشأ هذه الكيانات؟ (البعد الزمنيّ)
تبدأ صغيرة، كمنظمة أو حركة أو مجموعة ضغط. وتُضخَّم عبر التمويل والدعم الإعلامي والغطاء الحقوقي. ثم تتوسع تدريجيًا حتى تتحول إلى “فاعلٍ موازي للدولة”. وفي مراحل متقدمة تُمنح شرعية دولية عبر مؤتمرات ومبادرات ومنصات.
بهذا تتطور من كيان صغير إلى جسمٍ موازٍ لمؤسسات الدولة، ووظيفةٍ تُنفَّذ دون أن تدرك بالضرورة دوافع من صنعها.
مفهوم الكائن الوظيفي
إلى جانب الكيانات التنظيمية، يبرز الكائن الوظيفي و الذي يمثله الفرد الذي يُدفَع إلى الضوء—إعلاميًا أو سياسيًا أو حقوقيًا، او حتى عسكريًا— او بأي شكل يجعله رمزًا او ايقونًة مجتمعيًة بهدف أداء وظيفة بشرية داخل مشروعٍ خارجي، هذا الكائن الوظيفي هوالقناع البشري للمشروع.
و لذا دوماً ما تجد الكائن الوظيفي في حالٍ من هذه الاحوال:
لا يملك وزنًا ذاتيًا حقيقيًا.
قيمته نابعة من ارتباطه بالتمويل أو الدعم الخارجي.
يُستثمر كواجهة ناعمة لتمرير خطابٍ معين.
يُستخدم لصناعة رأي عام موجَّه.
سوسيولوجيا الوكيل وكيف يُصنع الشخص الوظيفي؟
و لعل من ابرز الخطوات لاستخدام الكائن الوظيفي:
يُختار عادة من الفئات “السهل تلميعها”: ناعم الكلام، مقبول الشكل، قابل للتدوير.
يُمنح منصات: مقابلات، مقالات، جوائز، زيارات خارجية.
يُصنع له هالة “خبير، أكاديمي، صوت مستقل، قائد مدني…”.
ثم يصبح–فجأة–أحد صناع الرأي العام دون أن يمتلك مشروعًا وطنيًا أو وزنًا ذاتيًا.
هكذا يتحول الشخص الوظيفي إلى “قناع بشري” يغطي الوجه الحقيقي للمشروع.
وفي المرحلة الأحدث، باتت صناعة الكائن الوظيفي تعتمد على أدوات تقنية متقدمة، تشمل تحليل البيانات الضخمة، والخوارزميات التي ترصد المزاج العام، وتقنيات التلاعب بالصورة والصوت، إضافة إلى صناعة رموز افتراضية وشخصيات رقمية يجري تضخيم حضورها عبر الذكاء الاصطناعي. وهكذا يتحول الوكيل من مجرد فرد إلى منتج تكنولوجي مُصمَّم داخل مختبر النفوذ.
أهداف الكيانات الوظيفية ولماذا تصنع؟
الكيانات الوظيفية لا تصنع عبثًا، بل هي أدوات لتحقيق أهداف استراتيجية أهمها:
إضعاف الدولة الوطنية وضرب مؤسساتها.
السيطرة على موارد السودان او خلافه من بلدان (ذهب – موانئ – ممرات تجارية).
هندسة سلطةٍ جديدة تضمن تبعية القرار الوطني.
خلق اضطراب مستدام يمنع قيام دولة قوية و مستقرة و متماسكة.
إعادة صياغة المجتمع عبر الخطاب الحقوقي والناشطين والمنصات الإعلامية.
هذه ليست عمليات محلية، بل جزء من حرب الجيل الخامس حيث تتحول الحرب من مواجهة عسكرية إلى إدارة نفوذ عبر وكلاء، ومن تفجير الميدان إلى تفجير الوعي.
مناهج العمل وكيف تتحرك هذه الكيانات؟
تعمل هذه الكيانات وفق آليات متكررة، ابرز ما يميزها:
التغلغل في مؤسسات الدولة لإضعافها من الداخل.
توظيف الخطاب الحقوقي كسلاح سياسي.
صناعة سرديات إعلامية تبرر الميليشيا وتدين الدولة.
استخدام التمويل الضخم لتحريك الولاءات.
إدارة الفوضى عبر خلق أزمات متتالية ثم تقديم نفسها كـ”حل” أو “وسيط”.
تشكيل واجهات مدنية تغطي الوظيفة الحقيقية للمشروع.
مساوئ الكيانات الوظيفية ولماذا تهدد الأمن الوطني؟
رغم ضخامتها الظاهرية، إلا أنها هشة وخطيرة لأنها:
تعمل على نزع القرار الوطني من يد الدولة وتضعه بيد الممول الخارجي.
تعمل على تفكيك المجتمع عبر الهوية الفرعية والعداء بين المكونات.
تعمل على إضعاف الجيش وتحاول خلق بدائل مليشياوية له.
تعمل على اطالة أمد الحرب لأنها لا تعيش إلا في بيئة الفوضى.
ترهن مستقبل الأجيال لصراعات القوى الدولية.
وتتمثل خطورة هذه الكيانات والكائنات في أنها تُحوِّل المجتمع تدريجيًا إلى مجتمعٍ مستهلك للسرديات الوظيفية لا منتجًا لها، مما يعيد تشكيل وعيه واصطفافاته وفق هندسات خارجية لا وفق احتياجاته الوطنية.
ومن الأمثلة التفسيرية التي تقرب الصورة و توضحها، ودون ذكر لأسماء “و لأن الاسماء تعصى على الحصر من كثرتها”:
منظمات تُستخدم لإدانة الجيش وتبرئة الميليشيا.
منصات إعلامية تُضخم جرائم طرف وتتجاهل جرائم طرف آخر.
شخصيات يتم تسويقها دوليًا كـ”قيادات مدنية” او “قيادات عسكرية” لتنفيذ مشروع لا يمت للواقع الاجتماعي بصلة.
مظاهر و أشكال الكيانات الوظيفية في حرب السودان
قد تأخذ الكيانات الوظيفية عدة مظاهر أو اشكال وبما يتناسب و الغرض منها، و هنا نذكر من هذه الاشكال:
الدولة الوظيفية:
و من اوضح النماذج في حرب السودان” الإمارات – تشاد” كدولتين وظيفيتين لكل منهما دوره.
وظيفتها: التمويل، التسليح، هندسة النفوذ،التدريب، التأهيل، الإخلاء، محاولة التأثير على مسار السلطة و كذلك التسهيل اللوجستي.
الميليشيا الوظيفية:
و من اوضح نماذجه مليشيا و قوات الدعم السريع.
وظيفته: القتال، السيطرة على الموارد، إرهاب المجتمع، تنفيذ المهام القذرة، فرض الواقع المرسوم و المخطط له باستخدام العنف و القوة العسكرية.
المنظمات الوظيفية:
و تمثلها منظمات المجتمع المدني من تيارات و تجمعات، ومن نماذجها “تأسيس – صمود” و هي عادة وعاء يتجمع فيه عدد من الاحزاب و المنظمات.
وظيفتها: إنتاج سرديات، تجميل صورة الميليشيا، منح غطاء مدني للتدخل الخارجي.
الحزب الوظيفي:
وهي كذلك احزاب سياسية بغطاء عمل سياسي مدني، ومن نماذجها “المؤتمر السوداني – الجمهوري – الأمة/برمة”.
وظيفته: شرعنة الحلول المصممة خارج السودان بضمان الوصول للسلطة دون المرور بصناديق الانتخاب كمقابل للادوار المطلوبة منهم و تخدم اجندة الفاعل الرئيسي.
الشخص الوظيفي:
و هذه هي من الكائنات التي تنشر في حياتنا الاجتماعية و بكافة أشكالها و مظاهرها” المدنية و العسكرية، و السياسية”. و نماذجها لا حصر لها، ويمكن للقاريء ان يجد حوله منها عشرات ان لم يكن مئات، يملأون الطرقات و الساحات و الفضاءات و المنصات و الميادين.
وظيفتهم: تمرير المشروع الناعم، وتزيين أجندة الداعمين، مقابل الفتات من المال و المناصب و الهدايا و الرشاوى.
الناشط الوظيفي:
هؤلاء يحتلون فضاءات وسائط التواصل الاجتماعي بانشطة و اساليب متعددة.
وظيفتهم: صناعة حملات الكراهية ضد الجيش والدولة و تبنى رؤي و افكار العدو و ترجمة اهداف الفاعلين.
المؤسسات الإقليمية الوظيفية:
و تمثلها و تشكلها “مراكز دراسات – إعلام عابر – مؤسسات ضغط دولية، مؤسسات إعلامية وقنوات فضائية”.
وظيفتها: صناعة السرديات، إحداث تأثير دولي، ابتزاز الدولة، تزييف الحقائق و تشكيل الرأي العام.
من المُتَربِّح من استمرار الحرب؟
هناك ثلاثة أطراف تحاول التربح من استمرار:
اولها، الميليشيا والوكلاء – لأنها لا تعيش إلا في الفوضى.
ثانيها، الدول الراعية – لأنها تربح نفوذًا وموانئ وذهبًا وممرات.
ثالثها، الشبكات الدولية – لأنها تُدير مشاريع إعادة تشكيل المنطقة عبر ساحات صراع منخفض التكلفة.
أما السودان وشعبه فهو الخاسر الأكبر.
كيف تقاوم الدولة الكيانات الوظيفية؟
وفي محاولة لوضع خارطة استراتيجية مختصرة لمقاومة و مكافحة الكيانات و الكائنات الوظيفية، يجب:
بناء سردية وطنية مضادة تكشف وظائف الوكلاء وتفضحهم وتعري أنشطتهم.
تعزيز الإعلام الاستراتيجي الوطني بدل رد الفعل.
تجفيف التمويل الخارجي عبر القوانين والرقابة.
تعزيز مؤسسات الردع ورفض “البدائل المليشياوية”.
إطلاق مشروع وطني جامع يزيل البيئة التي تتكاثر فيها الكيانات الوظيفية.
وعند النظر في كيفية استعادة الوطن من قبضة الوكلاء والوظائف الخارجية، تتقدم ثلاثة مبادئ أساسية لا غنى عنها:
أولاً: استعادة القرار الوطني ليعود إلى مؤسسات الدولة الشرعية وحدها.
ثانيًا: حماية وحدة المؤسسة العسكرية بوصفها صمام الأمان ضد التفكك والمليشيات.
ثالثًا: تفكيك منظومة الوكالة لصالح مشروع سيادي مستقل، ينطلق من الداخل لا من هندسات تُصاغ خارج الحدود.
إن حرب السودان ليست صراعًا داخليًا، بل مشروعًا كاملًا لإعادة هندسة وطنٍ كامل عبر وكلاء من دول، ميليشيات، منظمات، أحزاب، أشخاص، ناشطين، ومؤسسات إعلامية. وإن استعادة السودان تبدأ من كشف الوكيل قبل مواجهة الأصل، ومن تفكيك الوظيفة قبل تفكيك الكيان.
فالأوطان لا تُبنى بوكلاء،
ولا تُحمى بمليشيات،
ولا تُقاد بخيوطٍ تُحرّك من خارج الحدود.
الأوطان تبنيها الدولة الراسخة، والجيش الواحد، والشعب الواعي، شعب يعرف من أين يأتي الخطر، ومن الذي يقف في صف الوطن، ومن الذي يقف في صف الوظيفة القذرة.
الثلاثاء 18 نوفمبر 2025م



