الرواية الأولى

نروي لتعرف

موطئ قلم / د. اسامة محمد عبدالرحيم

حرب السودان كحرب بالوكالة على البحر الأحمر(تفكيك الصراع من الداخل إلى الإقليم)

عقيد بحري ركن (م) د. اسامة محمد عبدالرحيم

في المقال السابق من هذه السلسلة، حاولنا تفكيك التحوّل الذي شهده البحر الأحمر من كونه ممرًا ملاحيًا دوليًا إلى مسرح صراع مفتوح تتقاطع فيه رهانات التجارة والأمن والطاقة والنفوذ. وخلص التحليل إلى أن هذا التحوّل لم يكن معزولًا عن أزمات الإقليم، بل شكّل الإطار الأوسع الذي تُدار داخله كثير من الصراعات الجارية. وفي هذا السياق، لا يمكن قراءة الحرب الدائرة في السودان بوصفها أزمة داخلية مستقلة، بل باعتبارها إحدى ساحات هذا الصراع المفتوح، حيث يتقاطع الداخل الوطني مع الإقليم والدولي، وتتحوّل الجغرافيا من ميزة سيادية إلى هدف استراتيجي.

لم تعد الحرب الدائرة في السودان منذ أبريل 2023م قابلة للفهم ضمن الإطار التقليدي للصراعات الداخلية، ولا يمكن اختزالها في ثنائية الجيش والدعم السريع، أو في صراع على السلطة بين نخب عسكرية وسياسية. فحجم التعقيد، وطبيعة التدخلات، وأنماط التسليح، ومسارات الإمداد، كلها تشير بوضوح إلى أن السودان بات ساحة اشتباك إقليمي ودولي تتجاوز حدود الدولة الوطنية، وترتبط ارتباطًا مباشرًا بإعادة تشكيل موازين النفوذ في البحر الأحمر والقرن الإفريقي.

هذه الحرب، في جوهرها، ليست مجرد حرب على الدولة السودانية بوصفها كيانًا سياسيًا، بل هي حرب على موقع السودان، وعلى دوره المحتمل في معادلة البحر الأحمر، وعلى قدرته المستقبلية في أن يكون فاعلًا سياديًا في أحد أكثر الأقاليم حساسية في العالم.

والسؤال الذي ينبغي أن يُطرح قبل أي تحليل عسكري هو: لماذا السودان تحديدًا؟
يمتلك السودان ساحلًا طويلًا على البحر الأحمر، ويتحكم في عمق جغرافي يربط إفريقيا بالبحر والمشرق، ويزخر بموارد طبيعية هائلة، كما يقع في قلب منطقة تماس جيوسياسي بين الخليج، والقرن الإفريقي، وشمال إفريقيا. هذه الخصائص مجتمعة تجعل من السودان دولة مفصلية؛ إما أن تكون ركيزة استقرار إقليمي، أو ساحة فوضى مضبوطة تُستخدم لتعطيل التوازنات ومنع تشكّل قوة إقليمية مستقلة على البحر الأحمر.

التحول الأخطر في مسار الحرب السودانية يتمثل في انتقالها من صراع داخلي محدود إلى حرب بالوكالة متعددة الطبقات. حرب تشمل تسليحًا غير تقليدي، ودعمًا لوجستيًا عابرًا للحدود، وشبكات تمويل خارجية، ومرتزقة وخبرات قتالية مستوردة، فضلًا عن خطاب سياسي وإعلامي موجَّه بعناية. هذه المؤشرات لا تنتمي إلى حروب السيطرة التقليدية على السلطة، بل إلى حروب الجيل الخامس، حيث تُفكك الدولة من الداخل، وتُستنزف مؤسساتها، وتُدار المعركة دون إعلان صريح عن الأطراف الحقيقية التي تمسك بالخيوط.

وربط الحرب السودانية بالبحر الأحمر ليس استنتاجًا نظريًا أو إسقاطًا تحليليًا، بل قراءة واقعية لمسارات الصراع. فالسيطرة على الموانئ، والساحل، وطرق الإمداد، والعمق البحري، تعني التحكم في أمن الملاحة الدولية، والتأثير المباشر على التجارة العالمية، وامتلاك أوراق ضغط استراتيجية بالغة الحساسية. ومن هنا لم يكن مستغربًا أن تتقاطع الحرب السودانية مع تصاعد التوتر في باب المندب، والحرب في اليمن، والحرب في غزة، وما رافق ذلك من عسكرة متسارعة للبحر الأحمر،فجميعها حلقات في سلسلة واحدة، عنوانها إعادة ضبط النظام الأمني الإقليمي.

في الحروب الحديثة، لا تُقصف الموانئ بالضرورة، بل تُعطَّل سياسيًا، وإداريًا، وأمنيًا. وبورتسودان، التي تحولت إلى عاصمة مؤقتة للدولة، لم تكن مجرد ملاذ آمن، بل أصبحت هدفًا استراتيجيًا صامتًا، لما تمثله اليوم من مركز ثقل سياسي، ومفتاح سيادي بحري، ونقطة ربط حيوية بين الداخل السوداني والعالم الخارجي. فالتحكم في الميناء يعني التحكم في حركة الاقتصاد، وتدفقات البضائع والإغاثة، ومسارات العلاقات الخارجية، وحتى في معادلات إعادة الإعمار مستقبلًا.

أما الحرب بالوكالة، فهي لا تُدار من غرفة عمليات واحدة، ولا عبر تحالف صريح واحد، بل من خلال تقاطع مصالح دول تبحث عن نفوذ بحري، وقوى كبرى تسعى لتحييد السودان استراتيجيًا، وأطراف إقليمية تخشى صعود دولة سودانية قوية، إلى جانب شركات أمنية واقتصادية ترى في الفوضى فرصة استثمارية. وليس بالضرورة أن تكون هذه الأطراف متحالفة، بل يكفي أن تتقاطع مصالحها مرحليًا. وفي مثل هذه السياقات، تصبح الحرب طويلة الأمد، منخفضة الحدة أحيانًا، لكنها عالية الكلفة على الدولة والمجتمع.

والنتيجة الأهم لهذه الحرب لا تقتصر على الدمار المادي، بل تتجاوز ذلك إلى تفكيك مفهوم الدولة ذاته، وإضعاف الجيش كمؤسسة وطنية جامعة، وضرب الثقة بين المجتمع والدولة، وإنهاك الاقتصاد. وجميع هذه المآلات تصب في هدف واحد: منع السودان من أن يكون دولة بحرية فاعلة ومؤثرة على البحر الأحمر.

إن الحرب في السودان ليست مصادفة، وليست صراعًا عبثيًا منفلتًا من السياق، بل جزء من مشهد إقليمي أوسع، تُستخدم فيه أدوات محلية لتحقيق أهداف تتجاوز الداخل السوداني. وإذا لم يُدرك السودانيون، نخبًا ومؤسسات، أن معركتهم الحقيقية هي معركة سيادة وموقع ودور، فإن الحرب ستُعاد إنتاجها بأشكال مختلفة، حتى بعد توقف إطلاق النار. وفي معادلات البحر الأحمر، تبقى حقيقة واحدة ثابتة؛ إن الدول التي لا تحمي موقعها ومميزاتها، تُستَخدم مواقعها ومميزاتها ضدها.

الاربعاء 31 ديسمبر 2025م

اترك رد

error: Content is protected !!