الرواية الأولى

نروي لتعرف

موطئ قلم / د. اسامة محمد عبدالرحيم

حرب السودان: الرهان على ما قاله البرهان

عقيد بحري ركن (م) د. اسامة محمد عبدالرحيم

منذ اندلاع الحرب في السودان في 15 أبريل 2023م، لم يتوقف نزيف الدماء ولا الدمار ولا التهجير. تحولت الحرب إلى ماكينة طحن لا تميز بين مدني وعسكري، ولا بين مدينة وريف. ولأن الحروب ليست فقط نارًا تشتعل، بل منظومات مصالح تتغذى عليها قوى محلية وإقليمية ودولية، فإن إيقاف القتال و انهاء الحرب أصبح اليوم ضرورة وطنية وإنسانية عاجلة، ليس من باب العاطفة فقط، بل من منطلق المسؤولية تجاه شعب أنهكته الحروب وضاقت عليه سبل الحياة.

لكن، من المهم أن نفرق بوضوح بين إيقاف الحرب كإجراء تكتيكي بوقف إطلاق النار، وإنهاء الحرب كفعل استراتيجي يقود إلى سلام مستدام، يعالج جذور الأزمة ويمنع تجددها. فإيقاف القتال لا يعني بالضرورة تحقيق السلام، تمامًا كما أن وقف النزيف لا يعني شفاء الجرح.

لعله من نافلة القول ان التفاوض يعتبر عملية ضرورية؛ لكن على أي أسس يقوم هذا التفاوض؟ إن أي حرب أو نزاع، عادةً ما يُختم في النهاية بالجلوس إلى طاولة تفاوض، والتفاوض ليس ضعفًا بل هو فعلٌ طبيعي و مطلوب لإنهاء النزاعات، شرط أن يُبنى على أسس صحيحة. وهنا تكمن المسألة الجوهرية:
هل يكون التفاوض مجرد وسيلة لتسوية شكلية تعيد إنتاج الأزمة نفسها؟
أم أنه سيكون مدخلًا لتأسيس دولة جديدة تُبنى على سيادة الشعب وإرادته، لا على منطق السلاح؟

إن الرباعية بأركانها المعروفة (الولايات المتحدة، السعودية، مصر، الإمارات) قدمت رؤيتها للحل، مشددة على نقاط اساسية تتمحور في الآتي:

وقف إطلاق النار عبر هدنة إنسانية مدتها ثلاثة أشهر.

إطلاق عملية انتقالية مدنية خلال تسعة أشهر.

رفض عودة الجماعات “المتطرفة” (في إشارة واضحة إلى الإسلاميين).

وقف الدعم العسكري الخارجي.

إشراك الجيش والدعم السريع في العملية التفاوضية.

غير أن القراءة المتأنية تكشف أن هذه الرؤية تسعى و بطريقة ناعمة لتهيئة البيئة لإعادة دمج المليشيا وفتح الباب أمامها سياسيًا، وكأنها لم ترتكب جرائمها بحق الشعب. وهذا وحده سبب كافٍ لرفضها وفضحها ومقاومتها شعبيًا وسياسيًا و بالتالي فشلها.

كذلك، لا يمكن إنكار ثقل المجتمع الدولي والإقليمي و دوره في أي تسوية، لكن لا يجب أن يكون هو من يقرر مصير السودان. إن الأهم من شروط الرباعية هو شروط المجتمع السوداني نفسه(المحلي و الداخلي)، المجتمع الذي دفع الثمن الأكبر دون مغالطة. وإذا كان العالم ينظر إلى السودان من زاوية الاستقرار الإقليمي والبحر الأحمر والإرهاب العابر للحدود، فإن السودانيين ينظرون إليه من زاوية الأمن والكرامة والسيادة والمستقبل و العزة الشعبية.

اذا ما نظرنا إلى الترتيبات الدولية والإقليمية، فنجدها واضحة و بينة، تتشكل في ان:

واشنطن تريد استقرارًا يحمي مصالحها في البحر الأحمر.

الخليج يسعى لضمان أمن الملاحة والطاقة، مع بروز اهداف اماراتية تتجاوز مسألتي الملاحة و الطاقة للتمدد افريقيًا وفق مصلحة سياسية و اقتصادية تخصها.

مصر تخشى من تمدد الفوضى إلى حدودها.

لكن الترتيبات المحلية يجب أن تكون هي الأساس؛ إرادة الشعب، مؤسساته الوطنية، جيشه، وتطلعاته لدولة مدنية حقيقية لا رهينة لمليشيا ولا لأجندة الخارج.

ولا يمكن في هذا السياق تجاهل الدور الإسرائيلي الذي يتحرك في المشهد السوداني أحيانًا في العلن وأحيانًا في الظل، مستخدمًا أدوات مباشرة وغير مباشرة. فإسرائيل، بحكم موقع السودان الجيوسياسي وثرواته ومنافذه البحرية، تنظر إلى ما يجري في السودان باعتباره فرصة استراتيجية لترتيب موازين القوى في البحر الأحمر لصالح أمنها القومي، وضبط حركة التفاعلات بين إفريقيا والشرق الأوسط. وهي تسعى لأن تكون طرفًا مؤثرًا في أي تسوية قادمة، لا من أجل استقرار السودان، بل من أجل تثبيت موطئ قدم يخدم أمنها ومصالحها. إن فهم هذا الدور بدقة ووضعه في حجمه الحقيقي ضرورة لتفكيك أجندات الخارج، وإعادة تعريف الأولويات الوطنية من الداخل لا من الخارج.

و يبرز في طريق الحل السؤال؛ هل أن من تسبب في الحرب يمكن ان يكون جزءًا من الحل؟ وهل من تسبب في إشعال الحرب، أو دعمها أو فاقمها، أو انتظر خيفةً و خفيةً انتصار المتمردين، يمكن ان يكون جزءًا من الحل؟سؤال بسيط لكنه حاسم. و تطل الإجابة المنطقية والوطنية سافرة متبرجة تقول و بصوتٍ عالٍ: “لا”.
فالحل لا يُبنى على إشراك من خانوا الوطن، بل على محاسبتهم وإبعادهم من المشهد على أقل تقدير، وفرض إرادة المنتصر لصالح الشعب. فمن فوض الجيش و وثق فيه و في قيادته، ووقف خلفه واحتمل الكارثة؛ بل شاركه القتال و قدم في ذلك الغالي و النفيس من الانفس و الممتلكات، هو وحده من يحق له أن يختار مصيره ومستقبله.

وفي الوقت الذي تصدر فيه البيانات الدولية والتسريبات السياسية و الاعلامية، اختار الفريق أول عبد الفتاح البرهان أن يبعث رسالته من عطبرة، في مناسبة عزاء شهيدٍ من أبناء القوات المسلحة، حيث بوضوح: “لا تفاوض مع أي جهة كانت، سواء كانت رباعية أو غيرها، نحن مستعدون للتفاوض بما يصلح السودان وينهي الحرب بصورة تعيد للسودان كرامته ووحدته، وتبعد احتمال حدوث أي تمرد”.

بهذا التصريح، قطع البرهان الطريق أمام محاولات فرض تسوية من الخارج، وأعاد تعريف التفاوض بوصفه وسيلة وطنية بشروط وطنية، لا تنازل فيها عن الكرامة والسيادة. و التصريح كذلك، كان رسالة في بريد” الداخل الرافض المتمنع” و” الخارج المتأمل الضاغط”، رسالة أراحت السودانيين الوطنيين كثيرًا، و لكن الامر يتطلب ترابطًا و تلاحمًا شعبيًا يقف خلف القيادة مؤازرًا و مساندًا هذا الموقف بلا حدود و بلا انكسار.

من المعلوم ان اي عملية سياسية او عسكرية يكون لها من الاهداف ما هو تكتيكي و ما هو استراتيجي، عليه يجدر بالقيادة السياسية و العسكرية التمييز بين “التكتيكي والاستراتيجي” في أي عملية تفاوضية، ومن المهم أن نفصل بين:

التكتيكي: مثل وقف إطلاق النار المؤقت، أو ترتيبات إنسانية عاجلة.

الاستراتيجي: مثل تحديد شكل الدولة، مآلات السلطة، مستقبل المليشيات، واحتكار السلاح في يد الدولة.

كذلك، يجب ألا تكون أجندة الخارج معيارًا يُبنى عليه الحل، بل يجب أن تدور هذه الأجندة في فلك المصلحة الوطنية، لا العكس.

كذلك فإن السلام الحقيقي لا يُبنى على المساومات، بل على وضوح المعادلات؛ حيث هناك منتصر يفرض شروطه على مهزوم، ولا مساواة أبدًا بين الجلاد والضحية. وهذا يعني و بوضوح:

إبعاد كل من دعم المليشيا أو شايعها عن المشهد السياسي القادم .

تثبيت إرادة الشعب الذي فوض جيشه.

بناء عملية سياسية جديدة تقوم على الشرعية الشعبية، لا على الوصاية الخارجية.

في نهاية المطاف، لا الرباعية ولا الأمم المتحدة ولا العواصم الإقليمية هي من يقرر مصير السودان. إنه الشعب السوداني، بجيشه، وتضحياته، ودماء شهدائه، من يملك الكلمة الفصل. و أن مجرد السير بثبات في هذا الطريق هو انتصار، إن كانوا يعلمون.

إن مستقبل السودان لا يُكتب في عواصم القرار الخارجية، بل يُكتب بدماء الشهداء وصمود المدن والقرى، وبإرادة شعب قرر أن لا يُحكم إلا بما يختاره هو، لا بما يُملى عليه. هذه الحرب مهما طال أمدها ستنتهي، لكن ما سيبقى هو الذين صمدوا ولم ينكسروا، والذين حملوا على عاتقهم مسؤولية حماية الوطن وكرامته.
إن طريق السلامة معروف لا لبس فيه؛ إرادة وطنية حرة، تفاوض من موقع القوة، وعدالة تقتص من المعتدين. فلا مساومة على الدم، ولا تفويض إلا للشعب. وإذا كان للرباعية ولغيرها حساباتهم، فإن للشعب السوداني كلمته العليا التي ستظل تصنع التاريخ وتحدد المصير.

السبت 18 أكتوبر 2025م

اترك رد

error: Content is protected !!