الرواية الأولى

نروي لتعرف

موطئ قلم / د. اسامة محمد عبدالرحيم

حرب الإمارات على السودان بين سوء التقدير وقذارة التدبير

د. اسامة محمد عبدالرحيم

عرفت العلاقات السودانية – الإماراتية على مدى عقود طويلة قدرًا كبيرًا من الاحترام والتعاون المتبادل، واستندت إلى روابط سياسية واقتصادية واجتماعية مميزة. غير أنّ ما شهدته السنوات الأخيرة من تحولات دراماتيكية في موقف الإمارات تجاه السودان مثّل انحرافًا حادًا عن هذا المسار، حيث اتخذت أبوظبي سياسات عدائية، انخرطت عبرها في أدوار مريبة وعمليات تخريبية طالت البنية الوطنية السودانية. هذه السياسات لم تكن وليدة فراغ، بل جاءت نتيجة مزيج معقد من الهواجس الأيديولوجية، والحسابات الاستراتيجية الخاطئة، والطموحات التوسعية، وكلها اجتمعت لتدفع الإمارات إلى لعب دور محوري في إشعال الحرب الدائرة في السودان، في واحدة من أكثر المغامرات السياسية والأمنية قذارة وسوء تقدير في تاريخها الحديث.

منذ وصول الحركة الإسلامية إلى السلطة في السودان في العام 1989م عبر نظام (الإنقاذ)، ظلت الإمارات تنظر بقلق إلى ما تعتبره “هيمنة إسلامية” ممثلة في التيار الحركي الاسلامي على مفاصل الدولة السودانية. هذا القلق كان يرتكز على اعتقاد راسخ (لكنه غير صحيح) ، لدى حكام أبوظبي بأن الإسلاميين في السودان جزء من “التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين”، هذا التنظيم الذي تعتبره الإمارات خطرًا وجوديًا على أنظمة الحكم الوراثية في الخليج، وخاصة على عرش آل زايد.

ظل الهاجس الأكبر لدى الإمارات يتمثل في فهمها و نظرتها العامة لطبيعة الفكر السياسي للحركة الإسلامية، القائم على البيعة والولاء لمرشد أو أمير الجماعة، لا لحاكم الدولة، رغم ان هذا المفهوم قد يكون معمولاً به لدى جماعات و تيارات اسلامية بدول اخرى، لكنه و بشكل قاطع ليس معمولا به في ادبيات و معتقدات الحركة الاسلامية في السودان، و لربما كانت ازمة المفاصلة الشهيرة للحركة الاسلامية في الرابع من ديسمبر للعام 1999م، و ما صاحبها من اصطفاف معظم قادة و قواعد الحركة الاسلامية حينها خلف الرئيس الحاكم البشير في مواجهة زعيمها و مرشدها الدكتور حسن عبدالله الترابي هو خير دليل و برهان، الامر الذي يؤكد ان الحركة الاسلامية السودانية قد طورت من مفاهيمها و افكارها بما يتناسب و واقع الحياة، هذا الفهم المغلوط و الخاطئ هو ما رأت فيه أبوظبي تهديدًا مباشرًا قد يتسرب إلى داخل أراضيها عبر التأثير الفكري أو السياسي. ومن هنا، باتت كل خطوة أو تطور في المشهد السوداني تُقرأ في أبوظبي من زاوية هذا الخوف و القلق المزمن.

لقد رأت الإمارات أن الخطر لا يكمن فقط في وجود نظام إسلامي على رأس الدولة، بل في ما وصفته بـ”التغلغل” العميق للإسلاميين في البنية المؤسسية للدولة السودانية. وفي تقديرها، كان الإسلاميون يسيطرون على مؤسسات بالغة الحساسية و ذات وزن نسبي و تأثير كبيرين، هي (مؤسسة الرئاسة، القوات المسلحة، جهاز الأمن والمخابرات، ومنظومة الصناعات الدفاعية).

هذا التكوين، في نظر أبوظبي، جعل من السودان لاعبًا إقليميًا ذا وزن نسبي كبير، قادرًا على التأثير في محيطه العربي والأفريقي، وربما على إعادة تشكيل موازين القوى في المنطقة. وزاد من مخاوف الإمارات ارتباط هذه المنظومة (في ذهنية و تفكير ابوظبي) بعلاقات مع حركات المقاومة الفلسطينية، خاصة حركة المقاومة الاسلامية (حماس)، وما تردد عن دعم السودان لها بالسلاح والموارد، إلى جانب اتهامات بارتباط الخرطوم بمحور إقليمي يضم إيران، وهو المحور الذي تصنفه الإمارات وإسرائيل كتهديد مباشر لمصالحهما و توجهاتهما. و هنا نشير للتناقض في المواقف السياسية حين نشير الى ان الإمارات تعتبر أكبر شريك تجاري لإيران في الخليج، وأن لديها اتفاقيات أمنية بحرية بينهما، كما أنه في فبراير 2025م زارت الامارات 4 سفن لبحرية الحرس الثوري، علاوة على جملة من المعاملات و الاتفاقيات الثنائية، لا يبرر ذلك التناقض الا علو المصالح و اضطراب الرؤى.

رغم الدور الذي لعبته الإمارات في المراحل التي سبقت سقوط نظام الإنقاذ عام 2019م و اسهامها الكبير و الذي لم يعد خفياً في اسقاط منظومة الانقاذ، إلا أن قناعتها بقيت راسخة بأن “الخطر الإسلامي” لم يزُل بسقوط البشير و زوال نظامه. وبحسب تقديراتها، فإن المؤسسات السيادية والأمنية والعسكرية، لا تزال تحتشد و بكل مستوياتها القيادية و القاعدية بعناصر الإسلاميين وقياداتهم المؤثرة، مما يزيد مخاوفها.

من هنا، تحركت الإمارات وبحسب معطيات عدة نحو سيناريو جديد تتجلى في إشعال حرب داخلية شاملة، وفق نمط (حروب الجيل الخامس)، هدفها الرئيس تفكيك المؤسسات السودانية السيادية، العسكرية،الامنية، و الصناعية الدفاعية؛ وإضعاف قدراتها البشرية والتقنية والتكنولوجية، وصولاً إلى تدمير بنيتها التحتية. وفي حال تعذر تحقيق الهدف النهائي، فإن الخطة البديلة تقضي بتمزيق السودان وتقسيمه إلى كيانات ضعيفة، بما يضمن إلغاء تأثيره المستقبلي في الإقليم.

من اهم ملامح و ميزات هذا النوع من الحروب(حروب الجيل الخامس) ، أن الفاعل الرئيسي (الدولة أو الجهة المحرّكة) قد يختار إدارة الصراع من وراء ستار، بحيث يمكنه القيام بإدارة غير مباشرة عبر الوكلاء، كما يستخدم أطرافًا محلية أو إقليمية كواجهات للصراع، مثل مليشيات، حركات مسلحة، شركات أمن خاصة، أو حتى دول صغيرة تعمل كأذرع،و يبدو ذلك جلياً في توظيفها و رعايتها لمليشيا الدعم السريع و الكيانات السياسية المدنية السودانية الداعمة و المتواطئة، في حين يظل _ (الفاعل الرئيسي) _ هو الموجّه والمموّل والمخطط، لكنه يتجنب الظهور في الواجهة لتفادي أي تبعات سياسية أو قانونية أو عسكرية مباشرة.

لم تكن الحسابات الأمنية والأيديولوجية وحدها وراء هذا السلوك الإماراتي، بل اُضِيف إليها أطماع اقتصادية واستراتيجية. فالإمارات، الساعية إلى ترسيخ نفوذها كقوة إقليمية، و نظراً لدور السودان وتاثيره بحكم موقعه الاستراتيجي و الجيوسياسي الهام، تعتبر أن السيطرة على موارد السودان (الزراعية، المعدنية، والنفطية) والتحكم في مسارات حكمه السياسي و أنظمته الحاكمة أمر ضروري لاستكمال مشروعها في زيادة نفوذها وبسط هيمنتها على القرن الأفريقي والبحر الأحمر، وتأمين موقع متقدم على خطوط التجارة الدولية و الموانيء ، انطلاقًا من الاستثمارات والتمويل و السيطرة على الموارد كأدوات للضغط والتحكم.

لقد كانت الإمارات تدرك تمام الإدراك أن الحركة الإسلامية السودانية، التي عُرفت بعمق وصدق انتمائها الوطني، وحرصها الصارم على صون السيادة ووقوفها الصلب في وجه أي تدخلات أجنبية، تمثل حجر عثرة حقيقي أمام تحقيق أطماعها في السودان. فهذه الحركة، بما تملكه من رؤية سياسية وإرادة مستقلة، كانت تمنع الطامعين من الانفراد بموارد البلاد أو التحكم في ثرواتها الإستراتيجية. ومن ثمّ، ظلّت أبوظبي تسعى باستمرار إلى إيجاد أو دعم قيادة ضعيفة وهشّة يسهل التأثير عليها، وتحريكها كدمية لتنفيذ أجنداتها، بما يفتح لها الطريق نحو السيطرة على مقدرات السودان وتحويل قراره السيادي إلى أداة في خدمة مصالحها الخاصة.

شكلت منظومة الصناعات الدفاعية السودانية(هيئة التصنيع الحربي _سابقاً)، منذ مشاركتها الاولى في معرض “آيدكس 2013م” في أبوظبي ثم مشاركاتها المتوالية بعد ذلك، محور اهتمام ومتابعة من أطراف عديدة. لما أظهرته هذه المشاركات ، من تطور تقني وتسارع في الإنتاج العسكري، كان مخيفاً وكفيلاً بدق ناقوس الخطر لدى خصوم السودان، وعلى رأسهم الإمارات.

هذا القلق تضاعف بعد سقوط نظام الإنقاذ، حين زار مسؤولون إسرائيليون مواقع الصناعات الدفاعية السودانية واطلعوا على حقيقة ما وصل اليه الانتاج الدفاعي و الحربي السوداني، وأبدوا انبهارهم بالمستوى الذي وصلت إليه. تلك الزيارة وفقاً لقراءة (أبوظبي وتل أبيب) أكدت أن إسقاط النظام لم يكن كافيًا لوقف ما يرونه “تهديدًا مستقبليًا”، وأن تدمير هذه المنظومة أضحى ضرورة ملحّة، وهو ما جعلها ضمن أولويات خطة الحرب و اهدافها المرسومة.

إن تنامي وتطور قدرات السودان في مجال الصناعات الدفاعية، وعبر منظومة الصناعات الدفاعية، شكّل عامل قلق متزايد لدى الفاعلين الرئيسيين في الإقليم وخارجه، فكان سبباً أساسياً في تسارع خططهم لإسقاط نظام الإنقاذ. في حين أن زيارة مسؤولين إسرائيليين إلى هذه المنظومة، ودهشتهم من مستوى التقدم التقني الذي بلغته، كان دافعًا إضافيًا للتعجيل بإشعال الحرب الداخلية وافتعال مبرراتها، بهدف تقويض هذه القدرات الاستراتيجية والقضاء على كوادرها ومؤسساتها.

لقد انخرطت الإمارات في الحرب الدائرة في السودان عبر أدوار ووسائل متعددة، كان أبرزها (الدعم المالي والفني واللوجستي والاستشاري للمليشيا المتمردة، استقطاب وتوظيف كيانات سياسية لفرض واقع سياسي جديد يخدم أجندتها، والتدخل في البنية الوطنية بصورة تنتهك السيادة السودانية وتضرب المصالح العليا للبلاد).

و تظل الحقيقة تؤكد، أن مؤسسات السودان وأجهزته السيادية وطنية وقومية، ولا علاقة لها بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين أو أي تنظيم أيديولوجي آخر؛ فضلاً عن أن حتى الحركة الاسلامية السودانية و التي تشكل مركز قلق الامارات و إسرائيل لا علاقة تنظيمية او عضوية تربطها بأى تنظيم دولي خارج السودان ان كان الاخوان المسلمين او غيرهم ، وأن علاقات السودان الخارجية تُبنى على المصالح الوطنية العليا، وليس على الولاءات الحزبية أو العقائدية، كما ان السودان و منظومته الحاكمة لا تتدخل في شؤون الاخرين الداخلية و هو عين ما فعلته الامارات و هي تدخل كامل يدها في شأن السودان الداخلي لتفعل عملاً واقعاً ما كانت تتوهمه و تخافه من ان يدخل السودانيون ايديهم في شأنها الداخلي.

رغم الجهد الكبير الذي بذلته الإمارات لتحقيق أهدافها وأجندتها وفق مصالحها و مخاوفها، إلا أن سوء تقديرها وضعف قراءتها للمشهد السوداني أفرزا نتائج عكسية تمامًا لما خططت له. فالإسلاميون، الذين كانت أبوظبي تسعى لإقصائهم نهائيًا، عادوا بعد سقوط نظامهم أكثر حضورًا وتأثيرًا، مقاتلين مسلحين يحظون بتأييد شريحة واسعة من الشعب، تقديرًا لدورهم مقارنةً بأداء القوى السياسية الأخرى. هذا التحول عزز من مكانتهم في المجتمع، وبدد جزءًا كبيرًا من رهانات الإمارات على إضعافهم أو تحييدهم.

كما أن أفعال الإمارات في السودان، أدت إلى تآكل رصيدها الإقليمي والدولي، وتشوه صورتها الذهنية لدى المجتمع الدولي وظهورها في صورة الدولة المنتهكة لسيادة الآخرين، والمتورطة في أعمال تخريبية تتعارض مع القوانين والأعراف الدولية. هذا التدهور في السمعة سيكون له، بلا شك، ارتدادات مستقبلية على مكانتها ونفوذها.

إن حرب الإمارات على السودان تجسد نموذجًا صارخًا لسوء التقدير السياسي وقذارة الأدوار التدخلية. فقد جمعت بين هواجس أيديولوجية مبالغ فيها، وحسابات استراتيجية خاطئة، وطموحات توسعية عمياء، لتنتج حربًا كارثية لم تحقق أهدافها، بل أفرزت نتائج معاكسة. السودان، رغم الجراح، سيخرج من هذه المؤامرة أكثر قوة وصلابة، وسيعيد بناء مؤسساته على أسس أكثر رسوخًا، ليظل دولة عصية على الكسر، حافظة لسيادتها، وفاعلة في محيطها الإقليمي والدولي.

الثلاثاء 11 أغسطس 2025م

اترك رد

error: Content is protected !!