
ما أغرب القلب حين يعود إلى الوراء، يمرُّ على الشوك فيراه وردًا ذابلًا ما زال يحتفظ برائحة بعيدة، لن تُنسى وإن حاولنا. كذلك تلك الليالي التي ظنناها لن تنتهي، و تلك الدموع الساخنة التي بلّلت الوسائد في عزّ الوحدة، والطرقات المسدودة التي أغلقت علينا كل منافذ الحلم، والقلوب التي أوصدت أبوابها في وجوهنا ونحن بأمسّ الحاجة إليها… كل ذلك صار اليوم حكايات، نحكيها بيننا بضحكة مرة أو بابتسامة خفيفة ، وربما نحكيها صمتًا حين لا يسعفنا الكلام.
لأن في تلك الأيام شيئًا يخصّنا وحدنا: لحظات من الصدق لم نتزيّن فيها بالشجاعة، لحظات من الضعف لم ندّعِ فيها القوة. كانت الحياة تضربنا، ونكتشف في كل ضربة كم كنّا قادرين على أن نواصل رغم كل شيء. نشتاق حتى لتلك الندوب القديمة، نشتاق للألم لأنه وحده علّمنا أن لا شيء يبقى على حاله، لا الجرح ولا الفرح، وأن كل شيء يمضي ليترك فينا أثرًا لا يُرى، لكننا نشعر به كلما نظرنا خلفنا وفهمنا كيف صرنا هكذا.
وهكذا كان حال شعبنا حين حاصرتنا الحربٌ لم تترك لأحد فسحةً ليكمل يومه كما بدأه. في تلك الأيام الصعبة من حرب الكرامة، تبدّلت تفاصيل الحياة، ضاقت البيوت على من بقي فيها، واتّسعت القلوب لمن لجأ إليها. أفقرت الحرب كثيرين، هدمت بيوتًا شُيّدت بحُبّ السنين، وشرّدت أسرًا لم تكن تملك إلا ذكرياتها. صار الناس يعدّون ضروراتهم على أصابع اليد الواحدة، صار الخبز أغلى من الحلم، وصار الأمان هو ما يتمنّاه الناس قبل النوم، لا شيء غير الأمان.
تركت الحرب شبابًا كُثُرًا يحدّقون في الفراغ، يتساءلون كيف صاروا آخر قائمة الاهتمام عند عائلاتهم، وكيف انشغلت عنهم بالحياة حتى كادت تنساهم. كثيرون شعروا أن لا أحدًا يراهم، لكن الحقيقة أننا نراهم ونعلّق في أعناقهم أمل الغد، نرجو منهم القليل من الصبر وبعض الاهتمام بدراستهم، نرجو منهم أن يدركوا أن البلاد التي تصنع شبابها من رماد المحن لا بد أن تبعثهم يومًا من بين الركام ليكونوا عمادًا لما سيُبنى من جديد.
ومع كل هذا العناء، كانت الأيدي تمتدّ خفية لبعضها البعض، كان الناس يتقاسمون كسرة الخبز وكوب الماء. صار الفقير يُضيف إلى ضيقه قلبًا يتّسع لقريب أو غريب، وصارت بيوتٌ لم تكن تتّسع لغير أهلها تحتضن عشرات بلا من ولا اذي . هذا الشعب الذي جاع وخاف وبكى، لم ينكسر. ظلّ يسند نفسه بنفسه، ويبتسم أحيانًا رغم كل الظروف.
واليوم، والحمد لله، تلوح بوادر الفرج من بعيد. بدأ الناس يعودون، تعود الأسواق التي هجرها الخوف، تعود المدارس التي صمتت فيها أصوات التلاميذ طويلًا، وتعود الضحكات ولو خافتة، لكنها ستعلو يومًا حين نلتفت وراءنا ونقول لبعضنا: مضت تلك الأيام، وصرنا منها أقوى.
وقد وعدنا الله وعدًا صادقًا حين قال: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}، وما أجمل أن نوقن أن بعد الشدة فرجًا لا يخطئ أهله. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير…»، وما أعجب أمر هذا الشعب حين صبر فكان خيرًا له، وحين يشكر اليوم على بقايا نجاةٍ صارت بداية لحياة جديدة.
الحمد لله على نعمة الثبات حين زلّت من حولنا الأقدام، الحمد لله على بيوتٍ أُغلقت بفعل الحرب لكنها فُتحت بفعل المحبة، الحمد لله على هذا الوطن الذي علّمنا، حتى في أسوأ ليالينا، أن لا ننسى بعضنا، وأن نترك دائمًا نافذةً صغيرة يدخل منها ضوء الأمل كلما اشتدّ الظلام.
ما أجمل أن تتحوّل الأيام الصعبة إلى قصص تُروى للاجيال. قصص تقول لهم: لا تخافوا من سواد الليل، ففي الصبر صباحٌ يليق بقلوبٍ تعلّمت من الوجع كيف تحيا… وكيف تبدأ من جديد.