
في سياق التاريخ السوداني الحديث، تتبدى ملامح أزمة وطنية عميقة، تجلت في سلسلة من المغالطات التاريخية التي أُقحم فيها الشعب السوداني، وأدت إلى تشويه الوعي الجمعي، وتفكيك البنية السياسية والاجتماعية للدولة. لم تكن هذه المغالطات مجرد أخطاء سردية، بل أدوات ممنهجة لإعادة تشكيل الذاكرة الوطنية بما يخدم مصالح ضيقة، ويحول دون نشوء مشروع وطني جامع. ولعل الحرب، بكل ما تحمله من دمار وتفكك، تمثل النقطة الصفرية التي أعادت طرح سؤال الدولة من جديد، وفتحت الباب أمام إعادة التفكير في التنظيم السياسي، والهوية الوطنية، ومسار الدولة السودانية الحديثة.
منذ نشأة الحركة السياسية السودانية في مطلع القرن العشرين، كان الهم الوطني هو المحرك الأساسي. تشكلت التيارات السياسية الأولى في ظل الاستعمار، وتوزعت بين دعاة الوحدة مع مصر، والمطالبين بالاستقلال التام. لم تكن هذه الرؤى المتباينة تعبيرًا عن انقسام حاد، بل عن تنوع في الوسائل لتحقيق هدف التحرر. ومع الاستقلال في عام 1956، دخل السودان مرحلة جديدة كان يُفترض أن تؤسس لدولة مدنية ديمقراطية، لكن سرعان ما بدأت الانقلابات العسكرية، بدءًا بانقلاب عام 1958، لتدخل البلاد في دوامة من الحكم السلطوي، والإقصاء السياسي، وتهميش القوى المدنية.
كل مرحلة سياسية لاحقة كانت تعيد إنتاج الأزمة، لا حلها. ثورة أكتوبر 1964، وانقلاب مايو 1969، وانتفاضة أبريل 1985، ثم انقلاب الإنقاذ في 1989، كلها محطات أعادت تشكيل المشهد السياسي، لكنها لم تنجح في بناء نظام مؤسسي مستقر. بل على العكس، كانت كل مرحلة تسعى إلى محو ما قبلها، وتكريس خطاب إقصائي يجعل من الآخر السياسي عدوًا لا شريكًا. هذا النهج أدى إلى تآكل الثقة بين المكونات السياسية، وخلق حالة من الاستقطاب الحاد امتدت من النخب إلى المجتمع نفسه.
في هذا المناخ، أصبحت المغالطات التاريخية أداة فعالة لتبرير السياسات، وتزييف الحقائق، وإعادة صياغة الأحداث بما يخدم مصالح فئة معينة. بين اليمين واليسار، ظهرت صور نمطية مشوهة: اليسار يُتهم بالعداء للدين، واليمين يُتهم بالعداء للحرية. لم تكن هذه التصورات مجرد اختلافات فكرية، بل تحولت إلى أدوات لتأجيج الصراع، وتعميق الانقسام، وإنتاج خطاب كراهية جعل من الحوار السياسي ساحة للاتهامات لا للتفاهم.
ومع تصاعد الأزمات، واندلاع الحروب في أطراف البلاد، خاصة في دارفور، وجبال النوبة، والنيل الأزرق، ثم لاحقًا في الخرطوم نفسها، أصبحت الحرب نقطة تحول حاسمة. بما تحمله من دمار شامل، وانهيار للمؤسسات، وتفكك للنسيج الاجتماعي، أعادت الحرب طرح سؤال الدولة من جديد. لم تعد القضية مجرد خلاف سياسي، بل أصبحت مسألة وجود. لقد كشفت الحرب هشاشة النظام السياسي، وغياب المشروع الوطني، وأظهرت أن الاستمرار في المغالطات التاريخية لم يعد ممكنًا.
في هذه اللحظة الصفرية من عمر السودان، يكمن الحل في إعادة بناء الدولة السودانية على أسس جديدة. ليس من خلال إعادة إنتاج النماذج القديمة، بل عبر صياغة نموذج وطني خالص يستند إلى قيم المواطنة، والعدالة، والتعددية، ويعترف بالتنوع الثقافي والعرقي والديني، لا ينكره أو يقمعه. لا يمكن لهذا النموذج أن يُبنى إلا من خلال مراجعة جذرية للتاريخ، وتفكيك المغالطات، والاعتراف بالأخطاء، وفتح المجال لحوار وطني شامل يشارك فيه الجميع دون إقصاء. وهنا نعني القوى المدنية بجميع مكوناتها، عدا تلك التي باتت ضمن خطة هدم وتفكيك الدولة السودانية.
في الأنظمة الديمقراطية، تُعد المعارضة جزءًا أساسيًا من النظام السياسي، ووجودها ضروري لتحقيق التوازن والمساءلة. لكن في السودان، غالبًا ما تُصوَّر المعارضة الوطنية الخالصة، التي همها الإصلاح والبناء، كتهديد للأمن أو كأداة للتخريب، مما يضعف دورها ويجعلها عاجزة عن تحقيق أهدافها. هذا التصور المغلوط يعكس خللًا في فهم النظام الديمقراطي، ويؤكد أن النظام السياسي السوداني لم ينجح بعد في ترسيخ ثقافة التعددية والتسامح السياسي.
من المستفيد من إدخال الشعب السوداني في حالة المغالطات التاريخية؟ تشير الإجابة إلى أن المستفيد هو كل من يسعى إلى الحفاظ على سلطته من خلال تفتيت المجتمع، وإشغال الناس بصراعات وهمية، وتزييف الوعي الوطني. هؤلاء لا يرون في وحدة الشعب مصلحة، بل يرون فيها تهديدًا لمصالحهم، ولذلك يعملون على إعادة إنتاج الصراع، وتغذية الانقسامات، وتوظيف التاريخ كأداة للفتنة.
إن إدراك الشعب السوداني لهذه المغالطات، والوعي بخطورتها، هو الخطوة الأولى نحو التحرر منها. ومن المعلوم أن القوى المدنية برمتها تدرك العطب التاريخي، وكما أوضح الشريف زين العابدين أوجه الخلل في الحركة السياسية ومآلات هذا الخلل في خطابه أمام الجمعية التأسيسية عام 1989، فإننا نعيش اليوم ذات الحالة من التفرقة، وعدم قبول الآخر، نتيجة الاستقطاب الحاد الذي شهدته الحركة السياسية السودانية.
نعيد ونقول: نحن كسودانيين جميعنا نعلم اوجه الخلل التاريخيّ الذي افدي الي دخول السودان في هذه الفوضي الخلاقة فالتاريخ ليس مجرد سرد للأحداث، بل هو مرآة للوعي، وأداة لفهم الحاضر وبناء المستقبل. وإذا أُعيدت قراءة التاريخ بموضوعية، وبعيدًا عن الأيديولوجيا، فإن الشعب السوداني قادر على تجاوز هذه المرحلة، وبناء دولة تقوم على التعددية، والعدالة، والمواطنة، لا على الإقصاء والتزييف.
لذلك إن حرب 15 أبريل، رغم قسوتها، لابد من أن تكون هي نقطة التحول لتخطي المغالطات التاريخية التي سادت طيلة العقود الماضية فهي الفرصة الأخيرة لإعادة بناء السودان على أسس وطنية خالصة، بعيدًا عن المغالطات، والانقسامات، والصراعات المصطنعة. إنها لحظة الحقيقة التي لا تحتمل التزييف، ولا تقبل التردد. فإما أن يُعاد بناء الوطن، أو يُترك للتمزق والانهيار.
17 سبتمبر 2025م