الرواية الأولى

نروي لتعرف

موطئ قلم / د. اسامة محمد عبدالرحيم

جيش السودان، (71) عاماً من الحرب والسلام

د. اسامة محمد عبدالرحيم

في الذكرى الحادية والسبعين لتأسيسه، يقف جيش السودان شامخًا كأحد أعرق المؤسسات الوطنية التي حملت على عاتقها عبء حماية البلاد، وصون سيادتها، والدفاع عن شعبها في وجه المحن والابتلاءات. سبعة عقود ونيف، مضت فيها هذه المؤسسة العريقة بين ميادين الحرب وفضاءات السلام، صانعةً التاريخ، وراعيةً للوطن، وحارسةً لحدوده.

تعود جذور الجيش السوداني الحديث إلى العام 1924م، حين أُنشِئت النواة الأولى له باسم قوة دفاع السودان في ظل الإدارة البريطانية المصرية، بعد أحداث ثورة 1924م الوطنية. تشكلت الوحدات الأولى من أبناء السودان الذين التحقوا بالخدمة العسكرية تحت قيادة ضباط بريطانيين، ليتحولوا لاحقًا إلى مدرسة للوطنية والانضباط، ويضعوا حجر الأساس لجيش المستقبل.

في الرابع عشر من أغسطس 1954م، شهد السودان حدثًا فارقًا، وهو تولي الفريق أحمد محمد الجعلي منصب القائد العام للقوات المسلحة، خلفًا للقيادات البريطانية كأول قائد عام سوداني للجيش، في خطوة عُرفت بـ”سودنة الجيش”. ومنذ ذلك التاريخ، اعتمد هذا اليوم عيدًا رسميًا للجيش السوداني، لما يحمله من رمزية استقلال القرار العسكري الوطني.كان ذلك إيذانًا بولادة جيشٍ وطنيٍ خالصٌ، يعكس إرادة شعبه، ويعبر عن طموحات أمته في الحرية والاستقلال.

منذ تأسيسه كقوة دفاع السودان، تولى قيادته ضباط بريطانيون أمثال( هوبيرت هدليستون، وستيفن بتلر، وريجنالد سكانز)، ومع السودنة، برزت أسماء سودانية رفيعة، يأتي منها ذكراً و مثالاً لا حصراً (الفريق أحمد محمد الجعلي أول قائد سوداني وأحد صانعي استقلال المؤسسة العسكرية، الفريق إبراهيم عبود والذي أصبح لاحقًا رئيسًا للبلاد وقاد البلاد في مرحلة سياسية مهمة، اللواء خالد حسن عباس والذي لعب دورًا في إصلاحات الجيش وتطوير بنيته، ثم القادة المعاصرون مثل الفريق أول عبد الفتاح البرهان الذي يقود الجيش في مواجهة الحرب الراهنة).

منذ نشأته، ظل الجيش لاعبًا رئيسيًا في الحياة السياسية السودانية، سواء عبر المشاركة المباشرة في الحكم في فترات معينة، أو من خلال دوره كحامٍ للشرعية وحارس للاستقرار الوطني في وجه الفتن والانقسامات. وعلى الرغم من تعاقب الأنظمة وتباين السياسات، بقيت العقيدة القتالية للجيش مرتبطة بحماية التراب السوداني و الزود عن حياضه.

لم يكن استقلال السودان في الأول من يناير 1956م ليكتمل لولا إسهام الجيش وقادته الأوائل الذين شكّلوا حائط صد أمام أي محاولات لعرقلة المسيرة الوطنية. فقد كان حضور الجيش في المشهد السياسي آنذاك رصينًا ومتزنًا، ضامنًا لانتقال السلطة الوطنية بسلاسة، وداعمًا لوحدة الصف. وكان للجيش دور أساسي في حماية مسيرة الاستقلال في يناير 1956م، وضمان انتقال السلطة بسلاسةٍ. كما تدخل الجيش في محطات حاسمة منها حماية الشرعية الوطنية من الانهيار في أوقات الاضطراب، إدارة شؤون البلاد في فترات الانقلابات والتحولات السياسية، ودعم مبادرات الانتقال السلمي للسلطة حين تقتضي المصلحة الوطنية.

لم يقتصر دور الجيش على البندقية والمدفع، بل امتد إلى ميادين الاقتصاد والتنمية. فقد أنشأ مشروعاتٍ إنتاجيةٍ وزراعيةٍ وصناعيةٍ ساهمت في دعم الاقتصاد الوطني، ووفرت فرص عمل، وأسهمت في تحقيق الاكتفاء في بعض القطاعات الاستراتيجية. كما ساهم الجيش من خلال مؤسساته التجارية و الصناعية و الاقتصادية في تأسيس وإدارة مشروعات إنتاجية وزراعية وصناعية كبرى، منها مزارع إنتاج غذائي، ومصانع للسلع الاستراتيجية، ومشروعات للبنية التحتية، مما أسهم في تشغيل آلاف السودانيين ودعم الاقتصاد الوطني.

وعرف الجيش السوداني كذلك، بإسهاماته في الحياة الفكرية والثقافية و الرياضية، من خلال المهرجانات و الاحتفالات و تنظيم البطولات و المنافسات، و من خلال معاهد التدريب والبحوث، ورعاية الفنون العسكرية، فضلًا عن مساهمته الكبيرة في النشاط الرياضي، حيث قدّم أبطالًا و نجوماً في مختلف الألعاب الرياضية، وشكّل رافدًا مهمًا للحركة الرياضية الوطنية.

على المستوى الخارجي، شارك الجيش السوداني في مهام قتالية وحفظ سلام في مناطق عدة، من الكونغو في ستينيات القرن الماضي، إلى مشاركاته في التحالفات الإقليمية وفي حروب عربية مثل 1967م و1973م و غيرها، وعدد من عمليات الأمم المتحدة في إفريقيا. هذه المشاركات عززت سمعة الجيش كقوة محترفة ومنضبطة وملتزمة بالمواثيق الدولية.

كذلك واجه الجيش تحديات جسيمة في حروب جنوب السودان قبل الانفصال، وفي إقليم دارفور خلال العقدين الأخيرين، حيث خاض معارك معقدة في بيئات جغرافية صعبة، متمسكًا بواجبه في الحفاظ على وحدة البلاد واستقرارها.

في صبيحة 15 أبريل 2023م، واجه الجيش محاولة انقلابية مسلحة قادتها مليشيا الدعم السريع، سرعان ما تحولت إلى حرب شاملة غطت معظم بقاع السودان بعد فشل المخطط الاساسي. نجح الجيش السوداني في التصدي لواحدة من اكبر المؤامرات التي واجهتها البلاد على مر تاريخها القديم و الحديث، حرب كان العدو المقاتل فيها مدعوماً بقوى محلية و اقليمية و دولية، لكن تكسرت كل جهوده على صخرة ترتيب و تفكير و تخطيط و مواجهة الجيش السوداني العريق، و كان من ابرز نجاحاته في ذلك الدفاع عن الخرطوم ومراكز الثقل الوطني و تحطيمه لاسطورة الجنجويد بالقضاء على كل مظاهر القوة عنده و خلق منه مسخاً مشوهاً، ومهاناً ومطارداً في الفلوات. كما نجح الجيش السوداني في التصدي لمحاولات مليشيا الدعم السريع للسيطرة على مقرات القيادة و السيطرة العسكرية و الأمنية، و كافة المواقع الحيوية و الإستراتيجية، و تفوق كذلك في العمليات النوعية بدحره و طرده للعدو بعدد من الولايات، منها الجزيرة و سنار و النيل الأزرق وكردفان ودارفور ، فضلاً عن النجاح العظيم في معارك الفاشر، حيث صمد الجيش أمام حصارٍ خانقٍ وصدّ قبل ايامٍ قليلةٍ الهجوم الفاشل رقم 228 منذ بداية الحرب، مُلحقًا بالمليشيا خسائر فادحة. كل هذه العمليات اتسمت بالتضحيات و الجسارة التي لازمت تاريخ جيش السودان منذ تأسيسه و خلقت منه رقماً يشار له بالبنان وسط رصفائه من جيوش الاقليم و العالم.

منذ ذلك اليوم و حتى الآن ، لا يزال الجيش السوداني يخوض حربًا شرسة في مواجهة هذا التآمر المحلي والإقليمي والدولي، حيث تحالفت مليشيات مرتزقة مدعومة من قوى خارجية بهدف تفكيك الدولة وتمزيق وحدتها. وفي ميادين القتال، أبان الجيش عن ثبات استثنائي، وروح قتالية عالية، وتضحيات جسيمة من أجل بقاء السودان دولةً موحدة ذات سيادة. وقدّم قادته وجنوده أرواحهم رخيصة في سبيل الوطن، وسط حرب تعدّ من أعقد وأشرس حروب العصر الحديث.

جاء الاحتفال للجيش بعيده الواحد و السبعين هذا العام تحت شعار “نحن في الشدة بأس يتجلى”، ليعبر عن عقيدة الجيش السوداني، التي ترى أن البأس والقوة يتجليان في أحلك الظروف، وأن الشدة هي ميدان اختبار الإرادة الوطنية والقدرة القتالية.

لقد ظل الجيش السوداني طوال تأريخه، يضم في صفوفه أبناء كل قبائل وأقاليم السودان، من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، في لوحة وطنية متماسكة تجسد وحدة البلاد في وجه الانقسام.

إن التحديات الراهنة تحتم على الشعب السوداني الاصطفاف خلف جيشه، فالوحدة الوطنية في هذه اللحظة المصيرية هي السلاح الأقوى في وجه المؤامرات. والجيش بلا سند شعبي يظل مقاتلًا معزولًا، أما حين يحتضنه الشعب، فإنه يتحول إلى قوة لا تقهر. إن الشعب وجيشه جسد واحد، ومصيرهما واحد. وفي هذا المنعطف التاريخي، يجب أن يلتف السودانيون حول جيشهم، فهو حصنهم الحصين أمام مهددات و احتمالات التفكك والضياع.

من جهة اخرى، فإن بطولات الجيش وتضحياته تظل أمانة في عنق كل سوداني. فبفضل دماء الشهداء وصبر و ثبات الجنود الاشاوس، ظل السودان واقفًا رغم العواصف. فلا بد من تقدير جهود الجيش وتضحياته، والإقرار بجميله على الوطن، فهو الساهر على الحدود، الحارس للمدن، والمُدافع عن سيادة السودان. إن جهاد الجيش في هذه الحرب ليس مجرد واجب وظيفي، بل هو رسالة تاريخية وأمانة وطنية.

منذ تأسيسه، كان الجيش هو الضمانة الأولى لوحدة السودان، وهو السياج الذي يصد الأطماع، ويحمي الأرض والعرض و يدافع عن وحدة البلاد و سيادتها. وفي كل المحن التي مرّت بها البلاد، كان الجيش هو العمود الفقري لبقاء الدولة، والحصن الأخير أمام الانهيار.

في عيده الحادي والسبعين، نحيي جيش السودان بكافة منسوبيه و قدامى محاربيه، و نهنيء قادته و ضباطه و افراده ، تهنئة عطرة وتحية إجلال وإكبار، و نحيي شهداءه و نقدر جهد مصابيه و جرحاه، و ندعو لهم جميعا بالقبول و الشفاء و التعافي، ونستذكر تاريخه الحافل من التضحية والعطاء و البطولات، ونستشرف معه مستقبلًا من السلام والنهضة، مستقبلاً يتعافى فيه الوطن، وتعود فيه رايات السلام لتظلّل سماءه. سيبقى الجيش السوداني، رغم الجراح، رمزًا للصمود، وعنوانًا للوطنية، وضمانةً لبقاء السودان حرًا مستقلًا، في وجه كل رياح العواصف.

الخميس 14 اغسطس 2025م

اترك رد

error: Content is protected !!