تُوفيت إلى رحمة الله تعالى الفنانة التشكيلية جريزلدا (جوهرة) وليام الطيب عن عُمرٍ يُناهز ال96 عاماً، بعيداً عن وطنها وأهليها، أمس (الجمعة 2022/5/20)، وهي أرملة أستاذنا العلامة البروفسور عبد الله الطيب – يرحمه الله -، بعد أن واجهت القضاء المؤجل (المرض) إلى حينٍ، بصبرٍ وحمدٍ وشكرٍ لله، إلى أن أدركها القضاء المبرم (الموت)، ودُفنت بالقرب من مقبرة زوجها البروفسور عبد الله الطيب في مقابر حلة حمد بالخرطوم بحري، وفقاً لوصيتها، ولكي تكون بالقرب منه في الحياة والممات، وفاءً وإخلاصاً ومودةً ورحمةً.
فالموت هو حق ٌّ علينا، ويُدركنا سواء كنا بين أهلينا أو بعيدين عنهم، فهو مُدركنا أينما نكون حتى ولو كنا في بروجٍ مشيدةٍ، تصديقاً لقول الله تعالى: “أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍۢ مُّشَيَّدَةٍۢ ۗ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ۖ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنْ عِندِكَ ۚ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ ۖ فَمَالِ هَٰٓؤُلَآءِ ٱلْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا”.
وتأكيداً لما قاله الشاعر العربي كعب بن زُهير بن أبي سلمى:
كُلُ اِبنِ أُنثى وَإِن طالَت سَلامَتُهُ
يَوماً عَلى آلَةٍ حَدباءَ مَحمولُ
ولدت جريزلدا في بريطانيا عام 1926، في أسرة تربوية تعليمية، حيثُ كان والدها معلماً، ووالدتها كانت معلمة أيضاً، إلا أن والدها ترك تدريس اللغة الفرنسية في مدارس لندن قبل تقاعده عن التدريس، واتجه إلى الدراسة من جديدٍ، ليدرس الفنون في جامعة لندن. وكان مهتماً بالفنون، وحريصاً على تنشئة جريزلدا وإخوتها على حب الثقافة والفنون. وبدا ذلكم جلياً في حرصه على أخذهم معه في زياراته إلى المتاحف والمعارض الفنية. فلا غروّ أن عشقت جريزلدا الفنون منذ صغرها. وأرادت أن تصقل هذا العشق للفنون بالدراسة الأكاديمية، فالتحقت بمعهد التربية الذي كان يَدرُس فيه عبد الله الطيب ومجموعة من زملائه المبعوثين السودانيين، ومنهم أحمد الطيب وشفيق شوقي وآخرون. وفي هذا المعهد تعرفت على عبد الله الطيب وأحبته وأحبها، وتكلل حبهما بالزواج في عام 1948، وكان زواجهما في البدء غير معلن لأهليها، خشية رد فعل أسرتها، ولكن بعد ذلك أُشيع أمر هذا الزواج على نطاقٍ واسعٍ، واحتفى بزواجهما الكثير من أصدقائهما السودانيين والبريطانيين، وأُقيمت لهما الحفلات على طريقة الفرنجة، وعلى الطريقة السودانية. وأتت مع زوجها عبد الله الطيب إلى السودان في عام 1950، ومن ثم التحقت بكلية الفنون الجميلة في المعهد الفني (جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا)، محاضرة في الرسم والتلوين بالمعهد. وحصلت على درجة الماجستير من معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية بجامعة الخرطوم. وأسلمت جريزلدا على يد زوجها عبد الله الطيب، وأسماها جوهرة، كنايةً على أنها شئٌ غالٍ في حياته.
عرفتُ الراحلة جريزلدا في عهدي الطالبي بجامعة الخرطوم، إذ كنتُ وأنا طالب في السنة الأولى بكلية الآداب في جامعة الخرطوم في مطلع الثمانينات في القرن الماضي أُقدم البروفسور عبد الله الطيب في برنامج “شذرات من الثقافة” التلفزيوني الأسبوعي، إضافةً إلى برنامج “آفاق” الإذاعي اليومي لسنين عدداً. وكنا نسجل حلقات برنامج “شذرات من الثقافة” في منزله ببري، وكانت جريزلدا تتعاون معنا في إعداد ديكور البرنامج، وتُشرف بنفسها على واجب الضيافة لفريق العمل التلفزيوني. وتوثقت علائقي بها في لندن، إذ كنتُ أزور البروفسور عبد الله الطيب عندما يأتي إلى لندن من فاس أو الخرطوم. ومن محاسن المصادفات أن منزلي في لندن لا يبعد كثيراً من منزله. فكانت تطلب مني إحضار بناتي الصغار معي، حيثُ تصنع لهم بعض الألعاب والرسومات والإكسسورات، وتفعل ذلكم عندما تزورنا في منزلنا مع البروفسور عبد الله الطيب. وكانت بالنسبة لهم الجِدة الرؤوم تلاعبهم، ويفرحون بها وتفرح بهن أيما فرحٍ عندما يلتقونها. وكانت جريزلدا معجبة إعجاباً شديداً بالفلكلور والتراث الشعبي السوداني. وتقول في غير مواربة عن الثوب السوداني، أنه يتميز عن غيره من أزياء الشعوب الأخرى، وكانت تفخر بإرتدائه في بعض المناسبات.
كانت الراحلة جريزلدا ودودة طيبة، حسنة الخُلق، وطيبة المعشر، صبورة حليمة، تفرح لفرح زوجها، وتغضب لغضبه. كان عندها اعتقادٌ جازمٌ، أن زوجها الراحل البروفسور عبد الله الطيب محسودٌ من قبل بعض أساتذة جامعة الخرطوم، لأنه كان بكل المقاييس العلمية والأكاديمية، ينبغي أن يفوز بمنصب مدير جامعة الخرطوم انتخاباً، لأول مرةٍ في الجامعة، لكن فاز عليه البروفسور عمر عثمان، عميد كلية الاقتصاد، إذ وجد دعماً انتخابياً من أساتذة كلية الطب، بإلإضافة إلى اليساريين من أساتذة الجامعة، فاستاء البروفسور عبد الله الطيب من موقف أطباء جامعة الخرطوم، فهجاهم شعراً، قائلاً:
وأطِبةٌ تركوا العلاج وأقبلوا
يزجون من مرض القلوب أضربا
ولم تكن جريزلدا أقل منه غضباً واستياءً على أولئك الذين ظلموه حسداً وفشلوه انتخاباً!
وأحسبُ أن جريزلدا في حبها وغَيرتها على أستاذنا عبد الله الطيب تشتط في نقدها لبعض معارضيه، فتجدها تصف بعضهم، بالحاسدين والحاقدين على عبد الله الطيب، لأنه أعلم منهم، وأعلى كعباً في العلم والثقافة منهم! وتذهب إلى أن بعض المثقفاتية جعلوا من الراحل الطيب صالح رمزاً للأدب والفكر، وتجاهلوا عبد الله الطيب، نكايةً به، ولأهدافٍ غير معلومةٍ!
وكأنها تريد في ذاكم الموقف، أن تردد قول الشاعر العربي عمر بن أبي ربيعة:
حسدٌ حُملنهُ من أجلها
وقديماً كان في الناسِ الحسد
أخلص إلى أن جريزلدا حبت السودان، من أجل حبها لأستاذنا الراحل البروفسور عبد الله الطيب، وهامت فيهما حباً وهياماً، وعاشت بعد الترمل سنين عدداً في السودان، إلى أن بعض من أهليها استغربوا عيشها في السودان بعد وفاة زوجها، ولكنها بهذه المواقف علمت الجميع معاني الحب والوفاء والإخلاص.
ألا رحم الله تعالى جريزلدا (جوهرة) وليام الطيب، وأنزل عليها شآبيب رحماته الواسعات، وتغمدها بواسع رحمته، وتقبلها قبولاً طيباً حسناً، وألهم آلها وذويها وأهليها جميعاً، وأصدقاءها وصديقاتها ومعارفها، الصبر الجميل.
ولنستذكر معاً في هذا الصدد، قول الشاعر العربي أبي الطيب أحمد بن الحُسين، المعروف بالمتنبئ:
وما الموت إلا سارقٌ دقَ شخصُهُ
يصولُ بلا كفٍ ويسعى بلا رِجْلِ
ولنستذكر معاً، قبل هذا وذاك، في هذا الخصوص، قول الله تعالى: “وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا ۗ وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ”.