ثورة النفط الأبيض في السودان…مورد نقدي ينام على كنزٍ من الفرص!؟

في تاريخ السودان الاقتصادي، شكّل القطن — أو ما يُعرف بـ«النفط الأبيض» — عموداً أساسياً للإيرادات الوطنية والعملات الصعبة. ففي سبعينيات القرن الماضي، كان القطن يؤمّن أكثر من نصف عائدات التصدير للسودان، قبل أن تندثر هذه القوة تدريجياً أمام نهضة النفط والتراجع الإداري دونما أسباب جوهرية .
وكانت حقول الجزيرة وسنار وكردفان تفيض بذهبٍ أبيض يذهب إلى أسواق العالم، فيعود بعائدات تموّل الموازنة وتسدّ العجز وتدير عجلة الصناعة. لكن، ولأسباب تتعلق بالإهمال وضعف التخطيط وتراجع البنية التحتية، انطفأت شرارة تلك الثورة الزراعية، وتركنا واحداً من أعرق مواردنا يذبل في التراب، بينما أسوق اخري في سنار والقضارف وحلفا تكتشف.
اليوم، والعالم يتجه نحو الألياف الطبيعية والمنتجات المستدامة، يقف السودان على أعتاب فرصة ذهبية نادرة لإعادة إحياء هذا القطاع وتحويله من جديد إلى قاطرة اقتصادية ونقدية. فالمساحات الصالحة للزراعة لا تزال واسعة، والمياه متوفرة، والخبرة التاريخية المتراكمة في زراعة القطن وصناعته لم تندثر بعد. كل ما ينقصنا هو الإرادة السياسية ورؤية اقتصادية تتعامل مع القطن كـ«مشروع قومي» مستدام لا كمحصول موسمي.
أرقام تقرع ناقوس العودة
بحسب بيانات وزارة الزراعة الأمريكية، ظل الإنتاج السنوي من القطن في السودان ثابتاً في العقد الأخير عند نحو 600 ألف بالّة (كل بالّة تقريباً 480 رطلاً أو حوالي 220 كغم) بمعدل غلة 653 كغم/هكتار بداية من موسم 2019/20 وحتى 2024/25 . ليست أرقام مذهلة، ولكنها تمثل قاعدة قوية يمكن البناء عليها.
وبحسب بيانات الأمم المتحدة عام 2018، بلغ إنتاج السودان حوالي 160 ألف طن من القطن ، بينما بلغت قيمة صادراته في العام ذاته حوالي 156 مليون دولار . أرقام متواضعة، مقارنة بماضيه العريق، لكنها مؤشر حي على أن القطاع ما زال يقف وبمقدوره ان يعود.
في الوقت نفسه، لا تزال الأراضي الصالحة للزراعة واسعة — فالسودان يملك 84 مليون هكتار من الأراضي الصالحة، ولا يُستغَل منها إلا أقل من 20% . هذا يعني أن الإمكانات لا تزال هائلة؛ إذا ما وُفّرت لها البنية التحتية و الرعاية والتخطيط الجيّد والحفز التمييزي.
المشكلة ليست في الأرض… بل في الإهمال
طالما بقي القطن مجرد محصول زُرع بلا هدف استراتيجي، فانخفض دوره، وتوقفت مصانع الغزل والنسيج. فالإنتاج الصناعي من النسيج تراجع من 274 مليون متر في السبعينيات إلى 13.7 مليون متر في عام 2003 فقط — أي تشغيل لا يتجاوز 5% من القدرة الممكنة . في حين أن المصانع موجودة وظروف الإنتاج متوفّرة والتجربة والخبرة ما تزال حاضرة، إذا ما عادت السياسات إلى دعمها.
لماذا الآن هو وقت القطن؟
.الطلب العالمي على الألياف الطبيعية مستقر، ودول مثل بطانيا، الصين وباكستان والهند لا تزال في حاجة إلى القطن الخام والمنسوجات .
.السودان مع موقعه الجيوستراتيجي ومياهه وموارده البشرية، يمكنه أن يعيد رسم خارطة إنتاج القطن بمنظور متكامل يبدأ من الزراعة ويمتد إلى التصنيع والتصدير بحلول استراتيجية مبتكرة ، ومعادلة اقتصادية تعيد هذا المورد الي سابق عهده ضمن منصات الأمن القومي.
أبرز تحديات القطاع:
أبرز التحديات التي تعيق إحياء «ثورة النفط الأبيض» في السودان تتمثل في تدهور البنية التحتية للري والحصاد، والآليات وغياب التمويل الميسّر للمزارعين، وتراجع صناعة الغزل والنسيج إلى أقل من 10% من طاقتها، إضافة إلى ضعف سياسات التسويق والجودة، وانخفاض القدرة التنافسية أمام الألياف الصناعية، فضلاً عن عدم الاستقرار السياسي والأمني الذي يحد من جذب الاستثمارات ويعرقل تنفيذ خطط طويلة المدى ضمن مشروع نهضوي.
ما العمل؟ مقترحات قصيرة الأجل وإستراتيجية
1.تأهيل البنية التحتية الزراعية: الري، الحصاد، التخزين، ومراكز الفرز.
2.دعم مباشر للمزارع: تمويل ميسّر، بذور محسّنة، وسعر شراء مضمون وبورصة خاصة للقطن.
3.تصنيع محلي: تحفيز إعادة تأهيل وتشغيل مصانع النسيج وتحديثها وإضافة القيمة محلياً
4.إدارة عوائد التصدير بذكاء: إعادة جزء من العوائد للنهوض بالقطاع، دعم الاحتياطي النقدي، والاستثمار في البرامج التنموية.
في خلاصة القول:
القطن ليس مجرد محصول يعود بنا إلى الذكرى، بل هو مفتاح لإعادة بناء الاقتصاد وإطلاق آلة النقد الأجنبي بحراكية جديدة. السودان اليوم في حاجة إلى أن يوقظ هذا العملاق النائم، عبر برنامج قومي واضح ومحفزات حقيقية، كي يعود الذهب الأبيض لمكانته الطبيعية… محركًا للاقتصاد، ومصدرًا للأمن والتنمية، والإمساك بناصية الموارد ذات الرصيد والتاريخ المجرب.
إحياء «ثورة النفط الأبيض» ليس رفاهية اقتصادية، بل ضرورة استراتيجية إذا أردنا أن ننهض من آثار الحرب ونبني اقتصاداً مستقلاً قادراً على تمويل نفسه. هذا المورد وحده يمكن أن يخلق عشرات الآلاف من الوظائف، ويعيد الحيوية للريف، ويدعم الموازنة العامة بعملات صعبة بلادنا في أمسّ الحاجة إليها.
إن ما نحتاجه اليوم هو أن نتعامل مع القطن كملف سيادي أمني — على غرار الذهب أو النفط والصمغ — وأن نضع له خطة خمسية طموحة، تبدأ فوراً، حتى نستعيد مكانة السودان في خارطة القطن العالمية، ونعيد للذهب الأبيض بريقه… بريقاً يضيء طريقنا نحو التعافي الاقتصادي والريادة المستقبلية، فهل من معتبر !؟.