رصد : الرواية الاولى
الخرطوم 28 يوليو 2025 (شينخوا) تحت أشعة الشمس الحارقة، يتجول السوداني آدم إسحاق (50 عاما) بين جنبات السوق الكبير في مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، منذ ساعات الفجر الأولى، حاملا في عينيه أملا ضئيلا في العثور على ما يُطعم أطفاله.
ويبحث آدم، وهو أبٌ لأربعة أطفال، داخل السوق عن ما يسدّ به جوع أطفاله، لكن بحثه اليومي تحول إلى رحلة محفوفة باليأس والألم.
في السوق الكبير الواقع وسط مدينة الفاشر، والذي كان يوما يعج بالحركة والتجارة، يسود اليوم صمت ثقيل، فمعظم المحلات مقفلة بأقفال صدئة، بينما تظل أبواب بعضها مفتوحة على رفوف خالية إلا من طبقات الغبار.
ويقول آدم بصوت أجهدته الحسرة “كل يوم آتي إلى هنا على أمل أن أجد شيئا رخيصا، لكنني أعود بخفي حنين”، ويضيف “قبل عام، كنت أستطيع شراء كيس من الذرة أو بعض الخضار، أما اليوم فحتى التمر أصبح رفاهية”.
وتابع آدم لوكالة أنباء ((شينخوا)) “أطفالي الأربعة ينامون على الجوع، وأنا عاجز عن تلبية أبسط حقوقهم”، ويبدي آدم حزنا مضاعفا لأن ابنته الصغرى، مريم، توقفت عن الذهاب إلى المدرسة لأنها لم تعد تستطيع التركيز من شدة الجوع.
وفي جانب آخر من السوق الكبير، تتجول أم كلثوم (32 عاما) بين الأزقة الضيقة للسوق، تحمل كيسا بلاستيكيا فارغا على أمل العثور على أي مواد غذائية تعود بها لأطفالها.
وقالت أم كلثوم لـ((شينخوا)) إن “المواد الغذائية شبة معدومة، ولا تتوفر بالأسواق، آخر مرة وجدت فيها سكرا كانت قبل ثلاثة أسابيع، ولكني فشلت الآن في إيجاد كيلوجرام واحد”.
ومنذ مايو 2024، تفرض قوات الدعم السريع شبه العسكرية حصارا مشددا على مدينة الفاشر، مما قطع طرق الإمدادات الغذائية والدواء عن مئات الآلاف من السكان، فيما تتهاوى المخزونات من الذرة والدقيق، وتصل أسعار ما تبقى إلى مستويات خيالية.
وقال محمد إدريس (56 عاما)، وهو أحد سكان المدينة لـ((شينخوا)) “قبل الحصار، كنا نعاني، لكننا على الأقل نجد شيئا نأكله”، ويضيف”أما اليوم، فلا نجد شيئا، الطعام غير متوفر والمواد الغذائية نادرة وأسعارها خيالية”.
فيما تقول المواطنة خديجة عمر (42 عاما) “لم نعد نجد حتى قوت اليوم”، وتضيف وهي تحتضن طفلها الذي لم يعد يبكي من شدة الضعف، “الجوع صار جزءا من حياتنا، لكننا هذه المرة نخشى أن نموت بصمت، لا أحد يهتم لما يحدث هنا”.
ووفقا للسلطات الحكومية، فإن سكان مدينة الفاشر باتوا يعتمدون في غذائهم على “الأمباز”، وهو بقايا الفول السوداني والسمسم بعد استخراج الزيت منه، ويستخدم كعلف للحيوانات.
وقال حاكم شمال دارفور الحافظ بخيت في بيان أمس (الأحد) إن “الوضع المعيشي في الفاشر أصبح لا يُطاق، هناك ندرة وانعدام كبيران في المواد الغذائية، علاوة على ارتفاع الأسعار بصورة خيالية للسلع الموجودة”.
وأضاف أن “المواطنين باتوا يعتمدون في غذائهم على الأمباز، والذي يُستخدم علفا للحيوانات، وحتى العلف أصبح غير متوفر الآن”.
وأمام خيمة مهترئة، في مخيم مؤقت للنازحين بأحد الأحياء الجنوبية لمدينة الفاشر، يجلس عبد الرحمن إدريس (56 عاما)، وهو يضع كومة من الأمباز الذي أصبح الوجبة الوحيدة لعائلته منذ أسابيع.
وقال لـ((شينخوا))”نحن نأكل ما لا تأكله البهائم في الأيام العادية”، ويضيف الرجل بيدٍ مرتعشة وهو يحاول طحن الحبوب اليابسة بين حجرين، “لكن حتى هذا العلف صار غاليا، والجوع لا يرحم”.
وفي مركز صحي بحي أولاد الريف، وهو حي يتوسط مدينة الفاشر، يرقد الطفل “ياسين” (7 أعوام) في حالة من الهزال الشديد، عيناه غائرتان وبطنه منتفخة، وهذه من علامات سوء التغذية الحاد، بينما تقول أمه بصوت مبحوح “لم يكن يأكل سوى العلف لمدة شهرين، والآن أمعاؤه ترفض حتى هذا”.
وقال طبيب يعمل بالمركز الصحي “نشهد إصابات جماعية بتقرحات المعدة والإسهال الدموي بسبب تناول مواد غير صالحة للبشر، المعدة البشرية لا تستطيع هضم الأمباز، لكن الجوع يجبر الناس على تجاهل الألم”.
وأضاف الطبيب لـ ((شينخوا))، طالبا عدم ذكر اسمه، “كنا نعالج عشرة أطفال أسبوعيا، والآن العشرات يأتون يوميا، ليس لدينا ما نقدمه سوى محلول الجفاف وبعض الفيتامينات، بينما يحتاجون إلى غذاء عاجل”.
وأظهر تقييم نشرته الأمم المتحدة في الثامن من يوليو الحالي أن 38% من الأطفال دون سن الخامسة في مواقع النزوح في الفاشر يعانون من سوء التغذية الحاد، منهم 11% يعانون من سوء التغذية الحاد الوخيم.
وأطلقت تنسيقية لجان المقاومة بالفاشر (متطوعون) نداء عاجلا حذّرت فيه من انهيار كامل في الخدمات الأساسية داخل مدينة الفاشر، مع تسجيل انعدام تام للسلع الغذائية والخدمات الصحية، وسط أوضاع إنسانية متدهورة تهدد حياة مئات الآلاف.
وقالت التنسيقية في بيان أمس إن “ما يحدث في الفاشر هو جريمة متعمدة، هذا الجوع الذي يفتك بالفاشر ليس كارثة طبيعية، بل عملية تجويع متعمدة وممنهجة تستهدف الأطفال والنساء وكبار السن والمرضى”.
ومنذ 10 مايو 2024 تدور مواجهات عنيفة بمدينة الفاشر بين الجيش السوداني وحلفائه، وقوات الدعم السريع.
ويسيطر الجيش السوداني على مدينة الفاشر، وتقاتل بجواره حركات دارفورية مسلحة كانت قد وقعت مع حكومة السودان في العام 2020 اتفاق “سلام جوبا”، وأبرزها حركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي، وحركة العدل والمساواة بزعامة جبريل إبراهيم.
والفاشر، هي مركز إقليم دارفور المكون من خمس ولايات، وأكبر مدنه، والوحيدة بين عواصم ولايات الإقليم الأخرى التي لم تسقط بيد قوات الدعم السريع التي تخوض نزاعا مسلحا ضد الجيش السوداني.
وتقدر الأمم المتحدة عدد سكان مدينة الفاشر بنحو 1.5 مليون نسمة، بينهم 800 ألف نازح من باقي مدن ولاية شمال دارفور بسبب النزاع المسلح الدائر في إقليم دارفور منذ 2003. وهي تضم ثلاثة معسكرات للنازحين، هي أبوشوك، زمزم، والسلام.
ويخوض الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منذ منتصف أبريل 2023 حربا خلفت عشرات آلاف القتلى وملايين النازحين داخل وخارج البلاد.■