ليس من السهل أن يفهم أي متابع للشأن العام في السودان المقولات التي رددتها مجموعة المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير بشأن رفض مشاركتها في الحوار الذي دعت له، وتقوم بتسهيله، الآلية الثلاثية المكونة من الإتحاد الإفريقي ومنظمة الإيغاد والأمم المتحدة، والذي بدأت جلساته يوم الأربعاء الماضي، ولا التصريحات التي تسارعت وتيرتها توضيحاً للخطوة التي بدت مفاجئة لقطاع كبير من المراقبين، والمتمثلة في اللقاء الذي جمع بين ممثلين عن مجموعة المجلس المركزي والمكون العسكري في مجلس السيادة، في منزل السفير السعودي في الخرطوم وبحضور وفد أمريكي تقوده مساعدة وزير الخارجية الأمريكى للشؤون الأفريقية مولي فيي، ليس من السهل فهم كل ذلك دون الإلمام الدقيق بطبيعة ما حدث عقب الإنقلاب الذي نفذته اللجنة الأمنية لنظام الإنقاذ في الحادي عشر من أبريل ٢٠١٩م.
ما حدث وقتها هو أن قطاعات كبيرة من سكان ولاية الخرطوم وبعض الولايات المجاورة، عقب إعلان سقوط النظام، ظلوا يشكلون حضوراً لافتاً ضمن الإعتصام الذي تمّ تنظيمه داخل ما يُعرف بميدان القيادة، معززين بذلك المجموعات التي بدأت الاعتصام منذ مساء السادس من أبريل من ذلك العام، وظلت الجهات التي دعمت ذلك الاعتصام ورعته، ترفع سقوفات التوقعات عالية، وتدفع الأحداث باتجاه السيطرة على السلطة من خلال إقامة شراكة بين المجلس العسكري الذي تشكل عقب إطاحة الجيش بالنظام وبين مجموعة الناشطين المدنيين وبعض القوى السياسية التي سبق وأن انضوت تحت لافتة “قوى الحرية والتغيير” في حين بقيت قوى أخرى موقِّعة على ميثاق الحرية والتغيير خارج المعادلة، واكتفت قوى ثالثة، بما في ذلك قوى النظام السابق، بموقف المراقب، ظناً منها أن مَن تصدروا المشهد السياسي سينخرطون عاجلاً في ترتيبات إنتقال سلس يقود البلاد إلى تحول ديمقراطي حقيقي، ويفتح أمام شعبها الأبواب التي أغلقتها القوى الدولية والإقليمية جراء الحصار الذي فُرض على السودان لأكثر من ربع قرن !!
لم يمضِ وقت طويل حتى تبين أن أطرافاً داخلية وأخرى خارجية نجحت في عقد صفقة ثنائية بين المجلس العسكري وبين جزءٍ من “قوى الحرية والتغيير” يتقاسمان بموجبها السلطة وفق إعلان سياسي أسموه “وثيقة دستورية” تتشكل بموجبه ثلاثة أجهزة للحكم الإنتقالي هي مجلس سيادة ومجلس وزراء ومجلس تشريعي، وتُلغى بموجب تلك الوثيقة المفوضية القومية للخدمة القضائية ليحل محلها مجلس للقضاء العالي.
مضى عامان من عمر تلك الشراكة غير المنسجمة، ظلت خلالهما السلطتان التشريعية والقضائية في يد السلطة التنفيذية، إذ فشل الشركاء في الوفاء بالتزامهم بقيام المجلس التشريعي الإنتقالي وبقيام مجلس القضاء العالي وظلا يمارسان سلطة التشريع ويرهبان القضاة ويعطلان قيام مجلسهم. وخلال هذه الفترة تبين للناس أن شعارات الحرية والسلام والعدالة التي رفعوها وتغنوا بها تمّ استغلالها للكسب السياسي المحدود وأن الوعود التي قُطعت بأن يتحول السودان إلى أحد أنجح نماذج الحكم الرشيد والعيش الرغيد، تبخرت في الهواء أو كساها غبار العِراك والتنافس للاستحواذ على أكبر قدر من مكاسب السلطة، وظهر جلياً تواضع قدرات الحاكمين وبؤس خيالهم في التعاطي مع مشكلات الحكم في بلد أرهقته الحروب الأهلية والمكائد الدولية وعقوق كثيرين من أبنائه، وقد كان من الطبيعي أن تنفضّ تلك الشراكة، لا بسبب تبديدها أحلام السودانيين فحسب، وإنما أيضاً بسبب الحمولة غير المحتملة التي وضعتها على كاهل المؤسسة العسكرية !!
تلك كانت الخلفية الضرورية لفهم موقف المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير الأخير، فهو يعتقد – متوهماً – أن الشعب فوّضه ليحكم دون رقيب من سلطة أخرى، لا تشريعية حتى لو كانت غير منتخبة، ولا قضائية، وأن مهمة العسكر تنتهي في حدود استخدام عصاهم للقضاء على النظام السابق وتفكيكه صامولة صامولة؛ ومن عجب أنهم برغم الفشل الذريع ودَرَك التردي السحيق الذي أوصلوا حال البلاد والعباد إليه، في جميع المجالات، مازالوا يعتقدون أنهم الأحق بالسلطة والحكم، وما على مَن سواهم إلاّ السمع والطاعة !!
يقولون لا شراكة، لأنهم يعتقدون أنهم هم أصحاب التفويض الشعبي والشرعية الثورية، وأنهم غير معنيين بإقامة شراكة مع مدنيين آخرين أو مع عسكريين، فمهمة العسكر،بالنسبة لهم، انتهت تلقائياً سواء بانقضاء المدة المحددة في الوثيقة المثقوبة أو بإجراءات الطلاق التي أعلنها قائد الجيش بعدما طفح الكيل.
ويعتقدون ألاّ معنى لتفاوض مع العسكريين إلاّ بغرض تسليمهم السلطة كاملة غير منقوصة، وإلغاء كل قرار صدر عقب ٢٥ أكتوبر حتى لو أصدرته السلطة القضائية، ثم من بعد ذلك، يحددوا هم مَن هي القوى الثورية التي يحق لها المشاركة في الفترة الإنتقالية التي يرغبون في تصفير عدادها من جديد، وليس لأحد أن يسألهم عمّا يفعلون.
يزعمون أنهم جاءوا لفك احتكار السلطة الذي كان يمارسه النظام السابق، ثمّ يمارسون أسوأ أنواع الاحتكار والتمكين، ويدّعون أنهم يطالبون بإقامة الديمقراطية في حين أنهم بعد عامين من الحكم لم يبدأوا أي تأسيس لتحول ديمقراطي، فلا تعداد سكاني أجروه ولا قانون إنتخابات سنّوه، ولا سلام أكملوه، وبدلاً من إلغاء جميع القوانين المقيدة للحريات، أباحوا الخمور والربا والشذوذ والمثلية، باعتبارها حقوقاً فردية !!
لقد ثبت أن مجموعة المجلس المركزي من قوي الحربة والتغييرلا تبحث عن حلول مستدامة لمشاكل السودان التي تفاقمت بسبب سياساتها الإقصائية الرعناء، وإنما تبحث عن العودة المنفردة لمقاعد السلطة، لا يشاركها في ذلك حتى شريكها السابق وكأنها وبمنطق (النسوية) تعتبر أن العِصمة ما تزال في يدها وأنها تريد طلاقاً بلا رجعة مع العسكر. وهي بحسب بياناتها ومؤتمرها الصحفي لا تريد أن يتم الطلاق بالتراضي، وإنما بالضغط الذي تتوسل إليه برافعة الحلفاء الدوليين والإقليميين، وبما تعتبره شارعاً ثورياً يواجه شبابه الموت لكي تعود هي لمقاعد السلطة!!
لا شك عندي أن مجموعة المجلس المركزي مخطئة في حساباتها جميعها فالمجتمع الدولي والإقليمي ملّ سلوكها الصبياني وهو غير مقتنع أصلاً بمقولاتها فارغة المضمون، عندما تتحدث عن التحول الديمقراطي، والشارع ينازعها في تسيُّده الحزب الشيوعي وتجمع المهنيين “ب” ، وهو – الشارع – فقد جاذبيته لكثير من السودانيين فلم يعودوا يعولون عليه، بعد أن اكتشفوا أنهم يُساقون إلى المجهول ؛ أما العسكريين – وهذا هو المهم – تعلموا من أخطائهم السابقة، وأصبحوا أعمق إحساساً بالأزمة الوطنية، ولا أعتقد أنهم سيُبقون البلد رهينة المحبس القحتي، ففي الساحة قوى أخرى أكثر عدة وعتاداً تشاركهم الحرص على ضرورة التحرك نحو حلول مستدامة قبل أن تتمزق البلاد.
• كاتب صحفي وسفير سابق