
في خضم الأزمة السودانية الراهنة، تبرز الحاجة إلى مراجعة جادة لمفاهيمنا حول الانتماء والمصلحة الوطنية. لقد أصبح جليًا أن الاستمرار في تغليب المصالح الفئوية والشخصية يُهدد كيان الوطن نفسه. تعارض المصالح لم يعد مجرد اختلاف في الرؤى، بل أصبح جرحًا ينزف من جسد الدولة، يعطّل مؤسساتها، ويؤجج النزاعات، ويباعد بين مكونات المجتمع.
وإذا تأملنا في تاريخ السودان، نجد أنه شهد لحظات من التلاحم التاريخي حين غلّب الشعب المصلحة العامة على الاعتبارات الضيقة. ثورة أكتوبر 1964، وانتفاضة أبريل 1985، وثورة ديسمبر 2018 جميعها كانت شواهد حيّة على أن الوحدة الوطنية ممكنة حين تتوحد الإرادة الشعبية، وتذوب الفوارق العرقية والسياسية تحت راية الوطن.
لكن اليوم، لم تعد المواعظ كافية. فنحن بحاجة إلى حراك عملي. فالمعركة الحقيقية ليست فقط ضد السلاح، بل ضد الأفكار التي تُقسّم. وهنا تأتي مسؤولية الجميع في إعادة رسم الخارطة الوطنية من الدولة التي يجب أن تتصرف بعدالة وتضم جميع القوة الصلبة والثورية، إلى الأعلام التخلى عن الخطاب التحريضي، إلى الفرد الذي يجب أن يدرك أن كلمته قد تكون شرارة أو بلسمًا.
إن وقف خطاب الكراهية والتحريض أصبح أولوية ملحة، كما أن تشكيل لجان محلية للحوار والمصالحة في كل منطقة قد يكون السبيل الأسرع إلى ترميم الشروخ الاجتماعية التي خلّفتها الحرب. لذلك يجب أن تظل جميع الفئات المجتمعية متصلة مع بعضها البعض، فالتواصل المباشر معهم هو مفتاح لإعادة بناء الثقة وتمكينهم كجزء من مشروع وطني جامع.
وفي إطار هذا المشروع الجامع، فإن مبادرات الشباب والمجتمع المدني قادرة على خلق ثقافة جديدة، تنبذ الإقصاء وتعتمد العمل الجماعي وسيلة لتجاوز المحن. توقيع ميثاق شرف وطني رمزي، ولو كان غير ملزم قانونيًا، قد يشكّل لحظة استيقاظ وضمير جماعي، يعيد تعريف الوطنية بوصفها التزامًا مسؤولًا تجاه الأرض والناس.
ولعل الأهم في هذا السياق أن ندرك كيف يمكن لهذه الخطوات أن تُعيد تشكيل الديناميات الاجتماعية في السودان فحين يشعر الناس بأنهم شركاء في الوطن، لا عبء عليه، يتحول الخطاب من عدائي إلى تعاوني. العلاقات بين المجتمعات تتحول من التوتر إلى الثقة، وتُعاد صياغة فكرة “الآخر” على أساس التكامل لا التهديد. كما تبدأ قدوات جديدة في الظهور: شخصيات حكيمة ومعتدلة تقود الساحة، بدلًا من متطرفين وأصحاب المصالح الضيقة.
وبعدنا تجاوز محنة الحرب بوقفتتا مع بعضنا البعض فلابد من البدء في إرساء دعائم السلام، والانطلاق في مرحلة إصلاح حقيقية و التي بدءت ترسم معالمها بإعلان دولة رئيس الوزراء الإطار العام لشكل حكومته “حكومة الأمل” و التي يعول عليها كثيراً في عملية الإصلاح الداخلي فمن خلالهاسيتم إعادة هيكلة مؤسسات الدولة على أسس الشفافية والكفاءة، بعيدًا عن المحاصصات. وعندها فقط يمكن للسودان أن يخطو بثقة نحو “النهضة” نهضة تُترجم بالاستثمار في الإنسان والتعليم والتنمية، وتعيد للسودان مكانته التاريخية والحضارية.
إن اللحظة التي نعيشها رغم ما تحمله من ألم وخسارة، تُخفي في طيّاتها فرصة نادرة لإعادة تشكيل المصير فلنحمل هذا الوعي، ونبدأ من حيث نحن، بكلمة مسؤولة، ومبادرة وطنية، وروح تتجاوز الجغرافيا والانتماءات لتلتقي في نقطة واحدة حب السودان والإيمان به وطنًا للجميع.
٢٥ يونيو ٢٠٢٥م