الخرطوم : الرواية الأولى – رصد
العرب اللندنية
رغم تحقيق مفاوضات الحل السياسي في السودان لتقدم كبير يحسب للأطراف الراعية، إلا أن ملفات يختلط فيها الاجتماعي بالقبلي والسياسي لا تزال عقبة أمام التوصل إلى تسوية نهائية يقبلها جميع الفرقاء.
الخرطوم – عاد إقليم شرق السودان إلى الظهور من جديد كتحد للحل السياسي في السودان بعد أن فشلت تحركات عديدة سعت لإحداث توافق بين المكونات الداخلية في الإقليم للوصول إلى تسوية إيجابية، في وقت تتبنى فيه القوى المدنية الموقعة على الاتفاق الإطاري مواقف رافضة لمشاركة مكونات أهلية في الإقليم ضمن أطراف العملية السياسية، وتصفها بأنها محسوبة على نظام الرئيس السابق عمر البشير.
وتمسك رئيس المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة محمد الأمين ترك خلال مشاركته في ورشة عمل نظمتها مؤسسة “بروميديشن الفرنسية”، الخميس بوجود وسيط خارجي مستقل في أي منبر تفاوضي مع الخرطوم، واعتبر أن الجلوس مع السلطة المركزية ليس من المنطقي بعد أن أصبحت خصما وحكما في الوقت ذاته.
واتهم في أثناء حضوره الورشة، التي تستهدف تقريب وجهات النظر بين المكونات الأهلية والسياسية في الإقليم، بعنوان “من أجل حل شامل لشرق السودان”، الحكومة بتقسيم الشرق عبر تحريضها لمجموعات، لم يسمها، كلما اتجه أبناء الشرق للتوحد.
وحملت تصريحات إعلامية أدلى بها عبدالله أوبشار، المنشق عن المجلس الأعلى للبجا ويترأس تكتلا يحمل الاسم نفسه، تهديدا جديدا بإمكانية حمل السلاح في وجه الحكومة، وبرر ذلك بأن السلطة المركزية تعتقد بأن التفاوض لاسترداد الحقوق حصريا على حملة السلاح، في إشارة إلى الانفتاح على حركات دارفور التي تحمل السلاح وحصلت على مكاسب سياسية عقب التوقيع على اتفاق جوبا للسلام.
واعتمد إعلان المبادئ الاجتماعية والسياسية بين مكونات الشرق الصادر في ختام الورشة، إقامة منبر تفاوضي بين مكونات الإقليم برعاية وضمانات إقليمية ودولية.
وأكد رئيس الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة الأمين داوود استمرار مساعي قيادات الإقليم لإنهاء الصراع بالشرق، واصفا إياه بأنه “سياسي بامتياز”.
ولم تحقق المساعي التي ذهب إليها المكون العسكري في السودان نتائج ملموسة لحلحلة أزمات الإقليم، ودائما ما كانت التعقيدات التي ترتبط بمواقف الإدارات الأهلية من أطراف السلطة سببا في إرجاء الوصول إلى أي تفاهمات.
ولم يؤد قرار رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان تجميد مسار الشرق في اتفاق جوبا للسلام مؤخرا إلى تهدئة الأوضاع، وتعرضت السلطة المركزية لضغوط من أطراف راعية للاتفاق لضمان بقائه بما لا يسمح بهدم الاتفاق كله.
واستطاع مجلس نظارات البجا ومجموعات أهلية أخرى رافضة لتهميشها من التفاهمات السياسية، تحقيق مكاسب بالانضمام إلى الكتلة الديمقراطية الرافضة للاتفاق الإطاري الموقع بين مجلس السيادة وقوى مدنية في ديسمبر الماضي.
وتحولت الكتلة إلى طرف يصعب تجاوزه مع توسيع قاعدة التنسيق، وجاءت مشاركتها في ورشة العمل التي نظمتها القاهرة يناير الماضي لإبراز رؤيتها لحل مشاكل الإقليم.
وأصبح ملف الشرق من الأوراق الضاغطة التي يستثمرها أحد الرافضين للاتفاق الإطاري، وما يحدث هو تكرار لمواقف سابقة جرى فيها توظيف أزمة الإقليم لتحقيق أهداف سياسية ظهرت في قرار غلق الإقليم، الذي مهد لإسقاط حكومة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك وحدوث الانقلاب العسكري على السلطة المدنية في أكتوبر 2021.
ولا يخدم دخول الإدارة الأهلية على خط العمل السياسي الإقليم على المدى الطويل، وأثبتت ورش العمل واللقاءات والندوات التي ناقشت قضية الشرق أن الصراعات تنشب بين أبناء الإقليم، ولا توجد حالة توحد للذهاب إلى إقرار تقرير المصير.
أطراف سودانية تنظر بريبة لمساعي الرئيس الإريتري لترتيب مفاوضات صلح بين قبائل شرق السودان ومكوناته
وقال أستاذ العلوم السياسية بجامعة الخرطوم أبوالقاسم إبراهيم آدم إن القوى المدنية لم تبن حساباتها على رؤية دقيقة حينما ذهبت باتجاه استقطاب حركتي العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، وجيش تحرير السودان جناح مني أركو مناوي إلى الاتفاق الإطاري، وتجاهلت باقي المكونات الفاعلة في الكتلة الديمقراطية، واصطدمت بمواقف تبنتها قوى فاعلة في الشرق ترفض الاستسلام لمسألة إقصائها من المشهد السياسي.
وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن الآلية الثلاثية وتضم البعثة الأممية والاتحاد الأفريقي ومنظمة إيغاد، حاولت إنقاذ الوضع بالدعوة إلى ورشة عمل تناقش أوضاع الشرق وتحاول إيجاد نقاط التقاء مع القوى الأهلية والسياسية في الإقليم، لكنها تمت مقاطعتها ولم تحقق أهدافها، وبدا من الضروري البحث عن تغيير معادلة الاتفاق الإطاري الذي يقر بوجود قوى بعينها تشارك في تحديد مستقبل الفترة الانتقالية.
وشدد على أن إصرار القوى الداعمة للاتفاق الإطاري على انتهاج نفس الأسلوب لن يؤدي إلى استقرار سياسي، وأن قضية الشرق ستظل قنبلة قابلة للانفجار في أي لحظة، وفي هذه الحالة قد تتحول تهديدات حمل السلاح إلى فعل حقيقي على الأرض، وسيكون التصعيد جاهزا مع استمرار تراخي الحكومة المركزية في إيجاد حلول مناسبة.
وبات المكونان المدني والعسكري أمام حتمية تغيير أسس التفاوض للاستمرار في الاتفاق الإطاري وتوسيع قاعدة المشاركة وتقليص المرحلة الانتقالية، في ظل الهشاشة الراهنة التي ربما تؤدي إلى تصاعد تهديدات حمل السلاح في مناطق عديدة من الهامش.
وكان العام الماضي شاهدا على تأسيس حركات جديدة تحمل السلاح مثل “درع السودان” و”حماة السودان”، وربما تدخل البلاد صراعا مسلحا تصعب السيطرة عليه.
وليست لدى أبناء شرق السودان تاريخيا مساهمة حقيقية في مسألة حمل السلاح أو الدخول في صراعات قوية، ما يقلل من تخوفات دعوة ترك التي تطالب بمفاوض وسيط من الخارج أسوة بما حدث في اتفاق جوبا وغيره من اتفاقات مرتبطة بدارفور.
وثمة نفوذ ومصالح وتدخلات لقوى خارجية في الشرق المطل على ساحل البحر الأحمر ولها أهداف خاصة، بينها إفشال الاتفاق الإطاري وتفويت الفرصة على الوصول إلى التسوية السياسية حاليا.
وتنظر أطراف سودانية بريبة لمساعي الرئيس الإريتري أسياس أفوري لترتيب مفاوضات صلح بين قبائل شرق السودان ومكوناته، وتراه يشكل مقدمة لاستقواء أبناء الإقليم بالخارج، ما يفتح الباب أمام استقطاب غربي تتزايد حدته بفعل التقارب المعروف بين أسمرة وروسيا الساعية لإقامة قاعدة عسكرية في مجابهة قوى غربية تحاول بشتى السبل تفويت الفرصة على المخطط الروسي.
وأوضح المحلل السياسي مجدي عبدالعزيز أن الترتيبات الإقليمية والدولية الراهنة لتأمين البحر الأحمر كممر إستراتيجي تنعكس بشكل مباشر على الأوضاع في شرق السودان، دون أن تكون للحكومة المركزية خطط واضحة لكيفية حماية الإقليم من التدخلات الخارجية، بالتالي فمعاناة الإقليم من التهميش تجعله ورقة رابحة يمكن الدفع بها في الصراع السياسي لعرقلة أي محاولات تخضع لتوجهات خارجية.
وذكر في تصريح لـ”العرب” أن ملف الشرق يظل “خميرة عكننة جاهزة ” إلى حين تحديد اتجاه البوصلة، وقدرة أي من الأطراف المتصارعة على الحسم، وأن تصاعد استغلال أطراف خارجية للإقليم يدفع نحو انقسام مكونات توافقت سابقا على رفض مسار الشرق، ومن ثم من المتوقع المزيد من التعقيدات التي تضاعف من صعوبة التسوية في المدى المنظور.