
بقلم: د. أمجد عمر محمد
بينما كنتُ برفقة صديق عزيز في زيارة لإحدى المؤسسات، دخل هو قبلي ببضع دقائق. رأيته يتبادل التحايا مع بعض الموظفين هناك ويتحدث معهم بودّ، ثم جلستُ إليه بعد لحظات لأجده شاردًا، تغشاه مسحة من الحزن. سألته: ما بك؟ فقال لي شيئًا أدهشني: بدأ يسرد لي أحوال بعض من تحدث إليهم، عن مشاكلهم الأسرية وهمومهم الشخصية، وكأنه يعرفهم منذ سنوات. قلت له متعجبًا: لكنك قابلتهم لتوّك! فكيف عرفت كل ذلك؟ فرد عليّ بجملة لا أنساها: “يا صديقي، هذه عندك تُسمى أسرارًا… لكن عندهم لا تُعرف كذلك”.
تلك اللحظة جعلتني أُدرك أننا بحاجة ماسة إلى تعريف المفاهيم من جديد في حياتنا؛ فالأشياء لم تعد تُفهم كما ينبغي، والمصطلحات تآكلت مع كثرة الاستخدام الخاطئ، حتى اختلط علينا الأمر.
صرنا نحتاج أن نعيد تعريف الخصوصية، فما عادت تُقدَّر في زمن يبوح فيه الناس بكل شيء، حتى ما كان بالأمس خطًا أحمر داخل الأسرة، أصبح يُروى بلا تحفظ في أماكن العمل وفي الشارع وحتى على وسائل التواصل. وأصبح السكوت عن المشكلة يُفسَّر ضعفًا، لا حكمة، وكتمان الحاجة يُعد تكبرًا، لا عفة.
نحتاج أن نعيد تعريف مفهوم الإنسانية؛ التي تاهت بين مصالحنا اليومية وتغوُّل الأنانية. نقرأ قول الله تعالى:
“وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ” (المائدة: 2)،
فنفهم أن التعاون لا يعني فقط مشاركة العمل، بل التراحم أيضًا. نحتاج إلى إنسانية تُشبه ذلك الفتى السوداني الذي آوى في دكانه عجوزًا لا يعرفها، ليلة السيول، ثم خرج من ماله البسيط ليشتري لها دواءً وغذاءً.
نحتاج أن نعيد تعريف الأسرة؛ فبعضنا يراها “مشروعًا اجتماعيًا” يُدار بالماديات، بينما الآخر يتصورها “ساحة صراع للحقوق”. لكن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم قدَّم لنا الصورة الكاملة حين قال:
“خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي” (رواه الترمذي).
فما بالنا اليوم نُتقن الإحسان للبعيد ونقسو على القريب؟
نحتاج إلى إعادة تعريف النجاح، الذي اختُزل في أرقام وألقاب، وغابت عنه معاني النفع والبركة. أليس من الغريب أن نحتفي بمن يجني المال، ولو أفسد المجتمع، ونتجاهل من يُربي النشء، أو يعالج المرضى، أو يُطعم الجائع؟ لقد قال الله تعالى:
“فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ” (الرعد: 17).
وكم من “زَبَدٍ” احتفى به الناس، ثم انقشع مع أول ريح!
حتى التدين، لا بد من إعادة تعريفه في وعينا الجمعي؛ فليس التدين فقط طقوسًا ظاهرية، بل سلوك وروح وعدل وحسن خلق وامر بالمعروف. روى الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
“الدين النصيحة”.
فهل نحن ننصح بعضنا بصدق؟ أم أن النصيحة صارت تُفهم تحقيرًا، وتُلقى بلا حكمة؟
أما الضوابط المهنية، فقد أصبحت في بعض البيئات مجرد شعارات تُرفع في الخطط وتُهمل في التنفيذ. في مجتمعاتنا، كم مرة رأيت موظفًا يُنجز مهمته لأن الله يراه، لا لأن الكاميرا تراقبه؟ هؤلاء هم “المراقبون لأنفسهم”، الذين نحتاج أن نعيد عبرهم تعريف الأمانة المهنية، كما فعل يوسف عليه السلام حين قال لفرعون مصر:
“اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ” (يوسف: 55).
في السودان، وفي العالم العربي عمومًا، خلطنا كثيرًا بين مفهوم الوطنية والانتماء للأشخاص، لا للمبادئ. الوطنية ليست شعارًا يُرفع، بل هي حب حقيقي وانتماء صادق وولاء دائم للوطن، يُترجم إلى سلوك يومي يهدف لبناء مؤسساته، وخدمة مواطنيه، والمساهمة في تطويره، والحفاظ على وحدته وسلامة أراضيه بكل ما نستطيع. ومن مقتضيات الوطنية أيضًا البُعد عن العنصرية والولاء الضيق، القبلي أو الجهوي أو الحزبي، الذي يُقسّم الناس ويُضعف الأوطان، ويزرع الشك والكراهية بدلًا من الانتماء والتماسك.
أن تكون وطنيًا يعني أن تؤدي دورك بإخلاص في أي موقع كنت، وأن تعتز بالبلد في الشدة قبل الرخاء، وأن ترفض أن تضرّه لأجل مصالحك أو ولاءاتك الضيقة. الوطنية هي أن ترى في كل نجاح عام إنجازًا لك، وفي كل إخفاق مسؤولية يجب أن تساهم في تجاوزها.
قال النبي صلى الله عليه وسلم عن مكة، وهو يغادرها مكرهًا
“ما أطيبكِ من بلد، وما أحبكِ
إليَّ! ولولا أن قومي أخرجوني منكِ ما سكنت غيركِ” (رواه الترمذي).
وهكذا يكون الولاء الحقيقي، لا يقطعه إلا الإبعاد القسري، ولا يُباع ولا يُشترى.
وكذلك نحن بحاجة إلى تعريف مفهوم التنافس؛ فقد شوهناه حتى صار صراعًا مليئًا بالمكايدات والمكر، وامتلأ بالحسد والحفر والطعن والهمز واللمز، وكأننا في معركة بقاء لا في ساحة ارتقاء. بينما الأصل أن التنافس في أي مؤسسة أو مجتمع يجب أن يكون بالعطاء لا بالاقتتال، وبالابتكار لا بالافتراء، وبالإنجاز لا بالتشهير. قال الله تعالى:
“وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ” (المطففين: 26).
هذا هو التنافس الحقيقي؛ تنافس في تقديم ما هو أنفع وأفضل، لا ما هو أذكى في الإساءة أو أسرع في إسقاط الآخرين.
إن التنافس البناء يصنع التفوق، ويُشعل شرارة الإبداع، ويرفع من شأن الجماعة لا الفرد فقط. أما ذاك التنافس الذي يتكئ على الخداع ويُغذى بالحقد، فليس إلا معول هدم يُخرب النفوس قبل أن يُخرب المؤسسات. ولقد رأينا في مجتمعاتنا كيف أن غياب روح المنافسة النبيلة يحوّل ميادين العمل إلى حلبات تصفية حسابات، تُهدر فيها الطاقات وتُكسر فيها الكفاءات، فتضيع الفرص ويُصاب التقدم بالعجز.
حتى الأسرار، لم تعد تُحفظ كما كانت؛ فبين من لا يفرق بين الفضفضة والفضيحة، وبين من يظن أن الأمانة تقتصر على المال، ضاعت خصوصيات البشر.
وفي المقابل، هناك أمور عادية نُبالغ في تحسسها، وننفق فيها عواطفنا وتوتراتنا بلا داعٍ؛ كأن يغيب أحدهم عن الرد على رسائلنا فنُحمِّله نوايا لا علم له بها، أو يتغير صوته فنظن أنه تغيّر قلبه! كم نحتاج لتعريف مفهوم حسن النية، وإعطاء الناس عذرًا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
“التمس لأخيك سبعين عذرًا، فإن لم تجد فقل: لعل له عذرًا لا أعلمه”.
ومن هنا، فإن المجتمع لا يستطيع أن ينهض أو يكوّن وعيًا حقيقيًا ما لم يوجد حدٌّ أدنى مشترك من المفاهيم المعرّفة التي توحّد الفهم وتُقرب المسافة بين العقول. تعريف المفاهيم ليس رفاهية فكرية، بل ضرورة لحماية نسيج المجتمع من التشظي، وحاجز منيع أمام الفوضى الأخلاقية والمفاهيمية. فحين يُصبح لكل شخص تعريفه الخاص للصواب والخطأ، تفقد الجماعة قدرتها على الاتفاق، وتفقد الأمة طريقها إلى التماسك.
تعريف المفاهيم ليس ترفًا لغويًا، بل ضرورة حضارية. فحين نُعيد تعريف الأشياء نُعيد ترتيب أولوياتنا، ونُرجع الأمور إلى مواضعها، ونقيسها بميزان عدل لا بميزان العادة.
ولعل أول مفهوم نحتاج أن نُعيد تعريفه هو “الإنسان” نفسه… من هو؟ وماذا يريد؟ وما أثره؟ وما قيمته حين يكون صادقًا، رحيمًا، نافعًا، ولو لم يكن غنيًا أو مشهورًا؟
إنها دعوة للتأمل والمراجعة، لا لنُغيّر قواميس اللغة، بل لنُصلح قواميس القلب والعقل، ونُهيئ أنفسنا لعبور جديد نحو مستقبل تُبنى فيه الأوطان لا على عدد سكانها، بل على وعيهم. وإن تعريف المفاهيم، في جوهره، يُعدُّ دستورًا مفاهيميًا جديدًا يعيد ترتيب أولوياتنا ويرسم ملامح تعاملاتنا على ضوء الفهم الأعمق والأنقى. مستقبلٌ يكون فيه كل مواطن مسؤولًا، وكل كلمة موزونة، وكل سلوك محسوب، وكل قيمة واضحة المعالم. مستقبلٌ تُصان فيه المعاني، وتُبنى عليه المواقف، وتُقاس به النهضة لا بالخُطب، بل بالوعي والفعل.
فتعريف المفاهيم ليس مجرد بحث لغوي، بل خطوة أولى في إعادة بناء الإنسان، وإعادة بناء الوطن.