✍️ ربيع ورياغلي – المغرب
إن العالم الإسلامي يعيش تشرذما ولكنه لا يُرى أنه تشرذم إلا ممن قاوم صناعة اللاوعي التي تكرسه، إذا أين يصنع اللاوعي الذي من خلاله تتشكل الاعتقادات الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية المعاصرة ؟ سؤال لا يطرح كثيرا لأن الأنساق التي تتشكل من خلالها المعلومة في الغالب بيد من يصنع اللاوعي كيفما يريد، إلا من نأى بنفسه عنها بذكاء وجودي فطري أو مكتسب، فهاته الأنساق تنتج لنا حاملا للمعلومة من خلال الوسائل الورقية عبر الكلمة والصورة أو السمعية البصرية أو الرقمية والتي تعرف حاليا طفرة نوعية، هاته الأنساق تتشكل إما من خلال: وسائل الاعلام ، المدارس والجامعات، المجتمع المدني والمؤسسات الثقافية، مؤسسة الأسرة ، فضاءات التدبير الاداري ووحدات الإنتاج الاقتصادية ، ثم المؤسسات ذات النشاط السياسي، و الفضاءات الدينية كدور العبادة.
فيما يخص وسائل الاعلام ، فلقد صرح الغرب نفسه من خلال “فرانز وليڤير جيسبيرت ” حينما كان مدير تحرير صحيفة Le Figaro في عام 1989 ، في ميكروفون فرنسا إنتر ، أن هناك قبضة خانقة لأرباب الرأسمالية على وسائل الإعلام في العالم. وبذلك نلاحظ من هنا هذا التهافت النوعي لتملك مصير هياكل الاعلام الدولي ، لأن هاته القبضة تؤثر على اللاوعي لدى الأفراد في العالم الاسلامي، وتصنع فيه روبوتات بشرية نسيت أن المسلمين هم جسد واحد كما قال نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم.
أما بالنسبة للفضاءات التربوية التي تنشط فيها عملية التلقين في المدارس والجامعات، فإنها تخضع لإيديولوجية الأنظمة السياسية التي هي تحت سيطرتها، أو تخضع لمن يؤثر على هاته الأخيرة محليا ودوليا، وفي هذا الصدد مركز البحث الأمريكي “كارينجي” كعنصر ضاغط مثلا أشار فى ورقة بحثية إلى أن التعليم مهم جدا لأى حزب إيديولوجي يتولى السلطة السياسية، ولقد دعا “كارنيجى” البلدان التي عرفت صعود التيار الإسلامي خلال الربيع العربي إلى الحفاظ على التعليم الدينى كجزء من المناهج الدراسية، مع التركيز على المحتوى الإسلامى الليبرالى. وهذا يوضح تماما أن التعليم في العالم الإسلامي يخضع لقوة ضاغطة من الغرب من أجل صناعة لاوعي سلبي مستتر لدى المسلم المعاصر ليصبح غير مؤثر .
وبخصوص مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الثقافية فإنها في الواقع المعاصر تُقْبِل في العموم على القالب الغربي وتسوق منجزاته الحضارية وثقافاته التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من معاشنا اليومي، من خلال ما يعرف بالمثاقفة التي تصنع في غالب الأحيان مسلما نسي غنى حضارته، فعلى سبيل الذكر لا الحصر نسي الكثير من المسلمين حتى وحدتهم الجغرافية، فالمسلمون تبادلوا السفارات بينهم وأصبح المسلم تلزمه تأشيرة ليزور أخاه المسلم، هاته المثاقفة ،من جانب واحد لأن في الجانب الآخر هي ضعيفة بحكم الاستيلاب الثقافي، صنعت في اللاوعي مسلما مستسلما للواقع الذي فرضه الغرب ولا يدري حتى أنه استسلام لأن التطبيع معه كان في اللاوعي. ربما كان طرح المفكر النمساوي محمد أسد (ليوبولد فايس سابقاً) من أقوى الطروحات في نقد الحضارة الغربية فهو يشير إلى أنها عقدت العزم ألا يكون للخالق-سبحانه وتعالى- مكانا فيها، لتصبح حضارة مادة إدراكها للوجود متمحور فقط على المحسوس المادي، حيث قال : “الحضارة الغربية لا تجحد الله في شدة وصراحة، ولكن ليس في نظامها الفكري موضع لله، ولا تعرف له فائدة، ولا تشعر بحاجة إليه.” ويزكي طرح هاته القولبة الغربية ما أورده السيد ثامر الخزرجي و السيد ياسر المشهداني ( 2004) حيث صرحا بأن :” إدراك ووعي واقع العولمة كما فسره عدد من الدارسين يثبت أن ما تقوم به العولمة يعد محاولة اختراق ثقافي، مما يعني التدخل في شؤون الدول الأخرى لغاية التأثير في ثقافة المجتمعات وسلوكهم ومعتقداتهم بوسائل عديدة .”
ونصل إلى مؤسسة تم اختراقها من جميع الجوانب وهي مؤسسة-نواة تنبع منها الكفايات البشرية أقصد مؤسسة الأسرة، هاته الأخيرة تعرف فجوة مقارنة مع حتى الاسرة المسلمة في القرون الوسطى، فما بالك بالقرون الأولى التي تأسست فيها الأسرة المسلمة وفق القيم الإسلامية، فأصبحت الفردانية والليبرالية والنمذجة الغربية تتسللان إلى الثقافة الاسرية من خلال العولمة، وأصبحت الاسرة تبتعد باعا بباع عن نسق القيم الإسلامي الأصيل، فغدت هشة أمام زوابع الحياة تتفكك مع أول اختبار، فوفق إحصائيات قدمتها شبكة RT الإعلامية في سنة 2018 تقع مثلا على سبيل الإشارة 60 حالة طلاق يوميا في الأردن و في مصر حالة طلاق كل 4 دقائق، وحسب ما ورد في جريدة الشرق الأوسط معدلات الطلاق تنافس أرقام نسب الزيجات في العالم الإسلامي. ويزكي طرح الاختراق الذي يشكل لاوعيا يكرس التشرذم الحاصل في العالم الاسلامي ما أورده السيد ثامر الخزرجي و السيد ياسر المشهداني في سنة 2004 حيث صرحا بأن :” ومما تبثه وكالات الإعلام الفضائية، فقد باتت الأسرة في أنحاء المعمورة تظهر أنماطا لشواهد العولمة في جوانب الحياة المادية، من حيث المسكن المنظم على القالب الأمريكي والملابس ونوعية المأكولات ومنها الوجبات السريعة، وفي جوانب الحياة الإنسانية توشك العلاقات الزوجية والأبوية أن تتجه إلى تكريس الفردانية التي تدعو إليها العولمة، بحيث يخبو الحس بالمسؤولية وبالواجبات.”، هاته الفردانية انتقلت من مستوى الأفراد إلى مستوى الدول في العالم الإسلامي، التي عجزت ولازالت عاجزة عن توحيد مصيرها مجددا.
أما فيما يخص فضاءات التدبير ووحدات الإنتاج الاقتصادية فيصنع اللاوعي المنمذج لدى المدبر الإداري والقوى العاملة عن كثب، كما صرح مراد بركات (2001) من خلال الإشارة إلى هاته النمذجة وهو يتحدث عن التغريب والعولمة على أنها : ” مجموع العمليات التي يتم من خلالها تجميع شعوب العالم المختلفة في مجتمع كوني عالمي واحد وذلك من خلال التحرر وإزالة القيود والمعوقات التي تفرضها الحكومات عن كافة الأنشطة والتحركات الاقتصادية السياسية، عن طريق التغريب والأمركة.” ، وبهذا الخصوص لقد صرح الغرب من خلال الكاتب اليهودي “توماس فريدمان” أن النجاح الاقتصادي وما يسبقه من نقلة تمهيدية لا يمر عبر التأقلم ّ مع قيم الثقافة المحلية، بل لا بد من تجاوز مسألة الثقافة الهوية في سبيل الانضمام إلى العالم المتقدم، ّ والمشاركة في التنمية الاقتصادية، نلاحظ من خلال هذا الخطاب أن الغرب يصنع إطارا اجتماعيا عالميا لإذابة ثقافات شعوب العالم في بوتقة المادية التي لا تريد أن تترك مجالا للقيم الاقتصادية المحلية لكي تتميز في العصر الاقتصادي الحالي حسب مشاربها التاريخية.
أما بالنسبة للأنساق السياسية (الأنظمة والمؤسسات الديموقراطية) التي تسوس كل فئات شعوب العالم الإسلامي ، فالسلط الحكومية والتشريعية والقضائية لم تسلم من القولبة والنمذجة الغربية من أجل تشكيل اللاوعي لدى رجل السلطة الذي يزكي هذا التشرذم، فالسلطة هي الأتون المحوري الذي ينتجه ويثبته من خلال السهر على تطبيق الترسنة القانونية المتأثرة بالمنتوج القانوني الغربي في معظم الاحوال ، وفي هذا الصدد أشار محمد عابد الجابري (1995) أن عددا من المفكرين في الغرب ذهب إلى أن تماسك حلف دول المحور لن يكون قويا إلا إذا كانت هذه الدول بإزاء عدو يهدد تنميتها وحضارتها يحل بديلا للاتحاد السوفياتي بعد انهياره، حيث قد شاع في العالم الغربي فكر (صموئيل هنتنجتون)، الذي اعتبر الحضارة الإسلامية من أخطر الأعداء المتوقعين لعصر العولمة، حتى تجد بعض الغرب يكتب بعنوان ”السياسة الواقعية في العالم ّ الجديد“ ما نصه: ”ومن شأن حرب باردة اجتماعية مع الإسلام أن تعزز الهوية الأوروبية في جميع نواحيها في هذا الوقت الحاسم في الوحدة الأوروبية“ ولكل هذه الأسباب وغيرها ربما يوجد رأي واسع الانتشار في الغرب، ليس على استعداد فحسب لتأييد حرب باردة اجتماعية على الإسلام بل وللأخذ بسياسات تشجع على ذلك“، لذا يريد الغرب ان يصنع لاوعيا لدى رجل السلطة لا يحبذ النموذج الإسلامي الذي يجب ان يعتبره عتيقا من أجل تدبير الشأن السياسي، لأنه يلغي دعم الغرب للعالم الإسلامي سواء العسكري أو المدني ويضع الدولة المعنية في لائحة الأعداء الواضحين، فسقوط الأنظمة التي فيها النفحة الإسلامية ومحاربتها هي شعار الغرب المعاصر لأنه يخاف من سقوط “بيزنطة العصر الجديد” من جديد.
أما بالنسبة لدور العبادة فاللاوعي فيها يتشكل وفق تدين خفيف أي أن الغرب المعولم يريد عالما إسلاميا منسلخا عن روح الإسلام لا يرى في العبادة إلا روتينا لا يتجاوز عتبة المسجد والمنزل وحتى إن تعداهما لا يجب أن يلمس بأي شكل ما الشأن العام، لان الإسلام السياسي يقض مضجعه، لأن الغرب الفاعل للعولمة يسعى إلى بناء عقل مسلم يُطبّع مع غاياتها من خلال هدم الحصانة الذاتية للأفراد وذلك من خلال منظومة قيم جديدة كونية ترتكز على إشباع الرغبات الكونية عوض التركيز على الإرتقاء الروحي. هكذا يريدون أن يتحول الإنسان المسلم من عبد لله يستثمر وقته وذاته وما يحيط به في عمارة الكون وعبادة الله، إلى إنسان اختزالي يعتبر الدين موروثا ثقافيا مفروضا عليه من طرف المجتمع ولهذا نجد العديد من المسلمين بالوراثة يعبرون إلى ديانات أخرى أو إلى الإلحاد بكل بساطة . ولقد أشار السيد علي عبد اللطيف الخطيب (2004) أحد الباحثين إلى هذا الاختزال التدميري للشخصية الإسلامية من خلال ما تفعله العولمة من تسطيح الإدراك والوعي وبناء لنسق القيم والهوية وفق معاييرها لا وفق معايير البيئة الأسرية والمجتمعية الاسلامية فقال: ”ستدخل فعاليات التربية الاختزالية التي ستتناول تقليص الإنسان في سلبية قهرية، من خلال فاعليتها التي ستتبلور في مفاهيم التهميش واللاهوية واللاوطن… وذلك عبر ميكانزمات تعطيلية للميل العقلاني، وتبليد للحس ً النقدي، في هذه الحال تسجل التربية العولمية نجاحا باهرا في تأدية مهمتها الاختزالية، فتخلق عبر فعاليات التعلم المصاحب هويات جديدة مقطوعة الصلة بواقعها وتاريخها”، أي أن العولمة تريد أن تصبح دور العبادة فضاءات يغدو فيها اللاوعي مصنوعا ليعتبر الدين نشاطا موازيا بالوارثة يحترم في إطار الحقيقة المجتمعية وليس سلوكا مدمجا في الحياة اليومية يمارس بقناعة وعن علم ومتفاعل مع العصر في إطار فقه حركي ديناميكي.
هكذا، منذ سقوط الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى و تقسيم الشرق الاسلامي وما يليه إلى “كانتونات” تخضع لسيطرة الدول الاستعمارية في إطار اتفاقية سايكس بيكو التي مازال العالم الإسلامي يعيش آثارها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية، تخضع كل هاته الانساق السالفة الذكر لضغط مستمر و عن كثب يوما بيوم في إطار منسجم إرادي أو لا إرادي من أجل صناعة إنسان مسلم، في معظم الأحوال من أجل تفادي التعميم، في اللاوعي لا ينتج فقط يستهلك، لا يفكر فقط يطبق، لا ينتقد فقط يتقبل، أي إنسان وجوده لا يؤثر في القرار الدولي، وهذا الأمر يجب أن ندق له نواقيس عدة على مستوى جميع هاته الانساق السبعة كي نغير فلسفة الوجود من أجل توحيد المسلمين في جسد واحد له كفاءة سياسية واقتصادية واجتماعية قادر على أن يأخذ مكانا مؤثرا من جديد في النظام العالمي وينشر فضائل الحضارة الإسلامية في أنحاء المعمور ولتكن دولة تركيا نموذجا معاصرا يحتذى به لإعادة العافية لهذا الجسد خاصة فيما يخص فضاءات التدبير ووحدات الإنتاج الاقتصادية.