
في ظل التصعيد المتواصل للعدوان علي الشعب السوداني وقواته المسلحة، وتحديداً في مدينة الفاشر، اتخذ المجتمع الدولي موقفاً لافتاً عبر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، حيث دعا أعضاؤه إلى وقف القتال فوراً، كما رفضوا بشكل قاطع إقامة أي سلطة موازية للسلطة الشرعية في البلاد. هذا الموقف يشكل تطوراً جوهرياً في المشهد السياسي السوداني، ويعكس قلقاً دولياً متنامياً من تعاظم خطر تفكك الدولة السودانية وتعزيز الانقسامات المناطقية بسبب ما تقوم به مليشيات الدعم السريع الارهابية المدعومة من دولة ابوظبي.
رفض مجلس الأمن لفكرة إنشاء حكومة موازية لا يرتبط فقط باعتبارات الشرعية الدستورية، بل يتعداها ليشمل مخاوف أعمق حول احتمالية تقسيم السودان عملياً إلى سلطنات مسلحة، وهو سيناريو تعارضه القوى الدولية بشدة. البيان الصادر اول الأمس ١٢ آغسطس ٢٠٢٥ عن المجلس حمل لهجة واضحة ترفض أي خطوات أحادية تسعى لتكريس سيطرة مليشيات الدعم السريع على الأرض عبر إنشاء هياكل حكم موازية، خصوصاً في دارفور. وقد اعتبر أعضاء المجلس أن أي محاولة كهذه تمثل تهديداً لوحدة الدولة، وتسهم في تعزيز الشرعية العسكرية على حساب المسار السياسي.
أما الاتحاد الأفريقي، فقد عبر عن موقف متماسك مع مبادئه المؤسسة التي ترفض تغيير الحكومات خارج الإطار الدستوري، حيث أصدر بياناً رسمياً يدين فيه أي محاولة لإنشاء حكومة موازية، مؤكداً تمسكه بوحدة السودان وسلامة أراضيه. هذا الموقف لا ينفصل عن سياق التحركات التي يقودها الاتحاد منذ اندلاع الحرب، والتي تشمل مبادرات للوساطة ومحاولات لجمع الأطراف على طاولة تفاوض تفضي إلى حل شامل. وقد أشار بعض دبلوماسيي الاتحاد إلى أن الدعم لأي حكومة خارج إطار المؤسسات الرسمية، حتى ولو كانت مدنية، يمثل خطاً أحمر أفريقياً لن يتم القبول به.
انعكاس موقف الاتحاد الأفريقي على الأمم المتحدة ومجلس الأمن بدا جلياً، فقد عزز من حدة الموقف الدولي الرافض لأي سلطات موازية. التنسيق بين الاتحاد والأمم المتحدة في هذا الملف يفتح المجال أمام ضغط سياسي مشترك على الأطراف الإقليمية المتورطة في دعم أحد طرفي الصراع، ويحد من مشروعية أي كيان سياسي أو إداري لا ينبثق من توافق وطني حقيقي.
وفي تحليل أكثر تعمقاً للموقف الأخير الصادر عن مجلس الأمن، يمكن القول إنه يحمل رسالة مزدوجة: أولهما دعوة مباشرة لوقف القتال في الفاشر باعتبارها نقطة اشتعال حيوية وانصياع مليشيات الدعم السريع لقرار المجلس رقم 2736 (2024) ، الذي يطالب برفع حصارها عن مدينة الفاشر، ووقف القتال، وتهدئة التوترات في عاصمة شمال دارفور وما حولها. ، وثانيهما رفض محاولات مليشيات الدعم السريع و داعميها سياسياً و عسكرياً فرض واقع سياسي جديد من خلال القوة. هذا الموقف لا يقتصر على الإدانة، بل يفتح الباب أمام استخدام أدوات قانونية دولية مثل العقوبات، وتجريم أي دعم خارجي لمشروع الحكومة الموازية، وقد تشهد المرحلة المقبلة تفعيل آلية المحاسبة عبر المحكمة الجنائية الدولية في حال استمرت هذه الانتهاكات.
السودان ممثلاً في السلطة الشرعية المتمركزة في بورتسودان، رحّب بهذه المواقف الدولية، واعتبرها دعماً واضحاً لوحدة البلاد وشرعيتها السياسية. الحكومة السودانية شددت على أن الحرب ليست صراعاً داخلياً تقليدياً، بل مواجهة مع مشروع خارجي يحمل أجندات تفكيكية، لذلك فإن رفض إقامة حكومة موازية يصب في صالح استقرار البلاد، ويؤكد صواب موقفها في مواجهة مليشيا الدعم السريع.
إقليمياً، تفاعلت عدة دول عربية وإفريقية مع هذا التصعيد وبيانات مجلس الأمن. مصر، التي تراقب الوضع السوداني عن كثب، تؤيد مبدأ عدم إقامة سلطة موازية، انطلاقاً من حرصها على أمن حدودها الجنوبية، وخشيتها من انزلاق السودان نحو صوملة محتملة. الجزائر عبّرت عن موقف مماثل، مؤكدة أن الحل في السودان يجب أن يمر عبر وفاق وطني وليس عبر فرض واقع بالقوة، فيما تبدي المملكة العربية السعودية حذراً واضحاً، لكنها بدأت تلعب دوراً متزايداً في التهدئة، خاصة في ملفات دارفور. الموقف السعودي يعكس اهتماماً بالمحافظة على الأمن الإقليمي ومنع انتشار الفوضى في منطقة ذات أهمية جيواستراتيجية.
كل هذه التفاعلات تشير إلى أن ملف السودان خرج فعلياً من دائرة المعالجة الداخلية، وأصبح أزمة دولية وإقليمية تتطلب رؤية جديدة من قبل قيادة الدولة السودانية تشكل من خلالها المصالح الاستراتيجية بذكاء لتجنب التبعية للمصالح الخارجية المتصارعة، وذلك عبر تبني إستراتيجية وطنية مستقلة تركّز على ما يلي: أولاً، توحيد الجبهة السياسية الداخلية على قاعدة وطنية لا حزبية (قلب الهرميّة الي القاعدية)؛ ثانياً، إعادة بناء مؤسسات الدولة لتكون جامعة وتمثل كل الطيف الوطني؛ وثالثاً، الانخراط في الحوارات الإقليمية والدولية لا كمفعول به، بل كطرف فاعل يحدد مصالحه بوضوح.
إن تحييد المصالح الخارجية لا يعني معاداة العالم، بل ضبط العلاقة معه ضمن إطار من الاحترام المتبادل والندية، واستثمار الدعم الدولي في بناء سلام حقيقي بدلاً من السماح بانجرار السودان إلى مشاريع خارجية تقسمه وتفقده سيادته. الطريق إلى الاستقرار يبدأ من وضوح الرؤية الوطنية، والقدرة على إنتاج حل سوداني خالص، بعيداً عن منطق الوصاية والانحياز.
١٤ أغسطس ٢٠٢٥ م