الرواية الأولى

نروي لتعرف

من زاويةٍ أخري / محمد الحاج

تحليل التحرك الأمريكي الأخير تجاه ملف الحرب في السودان (الدعوة إلى رباعية)

محمد الحاج

في خضم الحرب المستعرة في السودان منذ 15 أبريل 2023، والتي اندلعت بين القوات المسلحة السودانية ومليشيات الدعم السريع، برز التحرك الأمريكي الأخير كمنعطف جديد في طريقة تعاطي واشنطن مع هذا الملف المعقد. وتاتي الدعوة إلى تشكيل رباعية تضم مصر وقطر والإمارات، إلى جانب الولايات المتحدة، ليست لتكون مجرد خطوة دبلوماسية عابرة، بل لتعكس تحولًا في الاستراتيجية الأمريكية تجاه السودان والمنطقة الأوسع في القرن الأفريقي. ولذلك فإن التحرك الأخيرة للإدارة الأميركية تطرح تساؤلات عميقة حول ماهية أهداف واشنطن، طبيعة الأطراف المشاركة، وتداعيات ذلك على الدولة السودانية.

منذ اندلاع الحرب، قد اتسم الموقف الأمريكي بالتردد والضبابية. ففي بداية حرب ١٥ أبريل ٢٠٢٣ م اكتفت الإدارة الأمريكية بإصدار بيانات تدعو إلى وقف إطلاق النار، دون اتخاذ إجراءات حاسمة تجاه الأطراف التي تغذي الصراع، وعلى رأسها مليشيات الدعم السريع. ورغم تواتر التقارير الدولية التي تؤكد تورط أبوظبي في دعم هذه المليشيات بالسلاح والتمويل، فإن واشنطن ظلت حذرة في توجيه الاتهام المباشر للإمارات، ما يعكس تعقيدات العلاقة بين الطرفين، خاصة في ظل الشراكة الاستراتيجية التي تربطهما في ملفات اخري مثل تعميم الاتفاقية الإبراهيمية في المنطقة لضمان أمن اسرائيل.

التحركات السابقة، مثل مبادرة جدة التي قادتها الولايات المتحدة والسعودية، فشلت في تحقيق اختراق حقيقي، بسبب تعنت داعمين مليشيات الدعم السريع وغياب إرادة دولية حقيقية لفرض حل سياسي عادل. لذلك، فإن الدعوة إلى رباعية جديدة تبدو محاولة لإعادة ضبط التوازن، وتوسيع دائرة التأثير الإقليمي. لكن إدخال الإمارات في هذه الرباعية يثير الشكوك حول نوايا واشنطن، إذ كيف يمكن لطرف متهم بالتورط في تأجيج الحرب أن يكون جزءًا من جهود الحل؟ هذا التناقض يضعف مصداقية المبادرة، ويجعلها أقرب إلى إعادة إنتاج الأزمة بدلًا من حلها.

لفهم هذا التحرك الأمريكي، لا بد من النظر إلى الاستراتيجية الأوسع لواشنطن في القرن الأفريقي. السودان، بموقعه الجغرافي وثرواته الطبيعية، يمثل نقطة ارتكاز مهمة في هذه الاستراتيجية، خاصة في ظل التنافس المتصاعد بين القوى الكبرى مثل الصين وروسيا. التواجد الأمريكي في المنطقة يتم عبر أدوات متعددة، منها التعاون الأمني، الدعم الإنساني، والمساعدات الفنية، لكنه يظل محكومًا باعتبارات أمنية واقتصادية تجعل من السودان ملفًا حساسًا لا يمكن تجاهله. لذلك، فإن أي تحول في موازين القوى داخله ينعكس مباشرة على مصالح واشنطن في المنطقة.

أن واشنطن لا تسعى إلى وقف الحرب، بل إلى إعادة تشكيل النظام السياسي السوداني بما يتماشى مع مصالحها. هذا ما يفسر دعمها المتكرر للعودة إلى الحكم المدني، رغم أن الواقع العسكري على الأرض يفرض أولويات مختلفة، أهمها استعادة الأمن والاستقرار عبر دعم القوات المسلحة في مواجهة المليشيات. هذا التناقض بين الخطاب السياسي الأمريكي والواقع الميداني يضع القيادة السودانية أمام تحدٍ كبير: كيف تتعامل مع الضغوط الدولية دون الوقوع في فخ التنازلات التي قد تؤدي إلى شرعنة المليشيات أو تقويض سيادة الدولة؟

ففي ظل التقدم الميداني الذي تحققه القوات المسلحة السودانية، خصوصًا في دارفور، تحاول واشنطن صناعة اختراق بالضغط علي قيادة الدولة السودانية من خلال استخدام سلاح العقوبات و ذلك لفرض وقف إطلاق نار ليس كخطوة نحو السلام بل كتكتيك لاستخدامه لاحقاً. هذا ما يجب أن تدركه القيادة السودانية جيدًا، فالموافقة على وقف إطلاق نار في مناطق تحقق فيها القوات المسلحة انتصارات ميدانية قد يؤدي إلى تجميد الوضع العسكري لصالح المليشيات، ويمنحها فرصة لإعادة التموضع بدعم خارجي، خصوصًا من الإمارات التي لا تزال تلعب دورًا خفيًا في تغذية الصراع.

إن التعامل مع هذه التحركات يتطلب من القيادة السودانية وضوحًا في الرؤية السياسية والعسكرية، بحيث تضع مصلحة الدولة فوق أي اعتبارات دبلوماسية أو ضغوط دولية. فيجب أن يكون الموقف السوداني قائمًا على رفض أي مبادرات لا تضمن تفكيك المليشيات ونزع سلاحها، وإعادة بناء الدولة على أسس وطنية، بعيدًا عن المحاصصات التي أثبتت فشلها في السابق. كما يجب أن تستثمر القيادة الدعم الشعبي الواسع للقوات المسلحة، وتوظف هذا الزخم في بناء جبهة داخلية قوية قادرة على مواجهة التحديات الخارجية.

في المقابل، على القيادة السودانية أيضاً أن تدرك أن تجاهل التحركات الأمريكية قد يؤدي إلى عزلة دولية، لذلك من المهم أن تتعامل معها بذكاء سياسي، من خلال الانخراط في الحوار دون تقديم تنازلات جوهرية، والضغط باتجاه كشف الدور الإماراتي في الصراع، عبر القنوات الدبلوماسية والإعلامية. فهذا من شأنه أن يحرج واشنطن ويجبرها على إعادة تقييم تحالفاتها في المنطقة، خصوصًا إذا ما تم تقديم أدلة موثقة حول تورط أبوظبي في دعم المليشيات.

إن المرحلة القادمة تتطلب من السودان أن يكون فاعلًا لا مفعولًا به، وأن يتمسك برؤيته المطرحة للحل
و التي تستند علي أن يكون الحل سودانيًا خالصًا، يستند على إرادة شعبية ومؤسسات وطنية، ويضع حدًا للتدخلات الخارجية التي حولت السودان إلى ساحة صراع إقليمي ودولي، بدلاً من انتظار المبادرات الخارجية التي غالبًا ما تكون مشوهة أو منحازة. إن التحرك الأمريكي الأخير، رغم ما فيه من تناقضات، يمكن أن يشكل فرصة إذا ما تم التعامل معه بحذر وحنكة، بحيث يتم توظيفه لكشف الحقائق وتثبيت الموقف السوداني على الساحة الدولية.

ختاماً علينا أن ندرك أن الحرب في السودان هي انعكاس لصراع مصالح دولية وإقليمية، تتداخل فيه الأجندات وتتشابك فيه التحالفات. وأمام هذا الواقع المعقد، لا خيار أمام القيادة السودانية سوى التمسك بالثوابت الوطنية، ومواصلة التقدم العسكري حتى يتم فرض واقع جديد يفرض على الجميع احترام سيادة السودان ووحدة أراضيه. أما التنازلات، فهي طريق إلى إعادة إنتاج الأزمة، وإطالة أمد الحرب، وهو ما لا يجب أن يحدث بأي حال من الأحوال.
محمد الحاج
٢٣ أبريل ٢٠٢٥ م

اترك رد

error: Content is protected !!